ملامح سور القرآن: سورة المؤمنون

سورة المؤمنون في الجمع بين البشرية الطينية والسمو الروحي، أو الإيمان، فقد خلق الله الإنسان من هذا الغلاف الطيني، الذي هو لحم وعظم وخلايا وأجهزة، لها قوانينها ومطالبها، ولو تركت بغير ما يكملها ويصلحها، وهو الإيمان بالله ورسالاته والآخرة، وما تقتضيه من أخلاق وأحكام وحدود، تهذب المادية البشرية، وتجعلها في مقام السمو اللائق بها، كما أرادها الله، بلا جور على الجسد، ولا انحراف به عما خُلق له، لو تركت بغير هذا لفسدت وأفسدت وانحدرت إلى ما هو أدنى من حال الأنعام، لأن الأنعام لا عقول لها، والعقل الإنساني بغير انضباط له منازع إلى الشر لا حدود لها.

ولذلك عرضت السورة في مطلعها صفات المؤمنين الرئيسية، وهي أنهم يُصَلُّون، أي لهم أوقات من مناجاة الخالق كما أمر، يحافظون على هذه المواعيد للصلوات، ولهم خشوع في هذه الصلاة، فهم ينتفعون بذلك، ولا يؤدون حركات لا أثر لها، ولكن يدخلون في حال من ترتيب النفس، تصلها بالقدرة التي أنشأتها ولها الخلق والأمر، فتستمد زادًا من حقيقة العبودية الموصولة بحقيقة الربوبية.

ثم هم في سيرتهم في الحياة معنيون بما ينفع، معرضون عما لا ينفع من قول أو عمل، فيغلب عليهم الجد والإنجاز والإنتاج، وليس يعني ذلك أنهم آلات للجد الدائم لا دعابة فيه ولا ترويح، بل الأمر على العكس من ذلك، فمهما كانت النفس متسقة مع ما تعتقد، مقبلة على ما ينفعها، كانت في حالة من الصحة تؤدي إلى انشراح الصدر، وبشاشة الوجه، أميل إلى المزاح والابتسام، بمقدار لا يخرجها عن الوقار والاتزان.

ثم سيرتهم فيما يملكون أنهم يؤدون حقه، بما أنهم مستخلَفون فيه، وهو في أيديهم للاختبار، لا يمسكونه ولا يبذرونه. ثم هم في مخالقتهم للناس يرعون الحقوق المادية والمعنوية، وذلك المعبَّر عنه برعاية الأمانة والعهد. ثم هم في غريزة النسل لهم خُلُق منضبط أيضًا، لا يحرمون أنفسهم مما أحل الله لهم، ولا يجاوزونه إلى ما وراءه مما حرم عليهم.

فهؤلاء المؤمنون الذين هم حاصل جمع البشرية والإيمان، وهم المستحقون بعد مرحلة الابتلاء الدنيوية للكرامة الأبدية التي هي مشبهة لمتاع الأرض، ولكنها على هيئةٍ لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وكما خلق الله البشر على النحو المفصل في هذه السورة وفي غيرها، سلالة من عظم ولحم، هيأ لهم أسباب المعيشة، فسخَّر لهم المأكل والمشرب وما تقوم به حياتهم المادية، وأيضًا أرسل إليهم الرسل ليتم البناء الإنساني المطلوب. فكان أول احتجاج المكذبين بالرسالات أن المرسلين بشر مثلنا، ولو كان ما يدَّعونه صحيحًا فالخليق به الملائكة الذين ليس لهم حاجات البشر، وكيف يكون الرسول بشرًا يأكل ويشرب كالناس؟ وكيف سيعود الناس إلى الحياة ليحاسبوا بعد أن صاروا ترابًا وعظامًا؟ وتغافلوا عن النشأة الأولى.

وإنما كان الرسل بشرًا لأنهم قدوة، فلا بد أن يكونوا كالمرسَل إليهم، ولذلك كان الأمر إليهم: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا)، أي حقِّقوا الجمع بين الناحيتين والمطلبين.

وقد خص نوحًا -عليه السلام- بالذكر لأنه بنجاة مَن معه في الفلك نجا البشر، كما قال الله تعالى: (إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية)، فالمحمولون مع نوح هم أصل البشر كلهم.

ثم الرسل بعد ذلك مع من آمن بهم واتبعهم أمة واحدة، لأن المرسِل واحد، والرسالة واحدة. فما كان من الناس إلا أن تقطعوا فرقًا شتى كلٌّ فرح بما عنده، يَعُدُّون الازدياد من الزينة الدنيوية خيرات تسرع إليهم، وغفلوا عن أن هذا جانب واحد مما يراد لهم، وأن أعمالهم معدَّة للحساب في كتاب، وأن غفلتهم سيوقظها من سكرة الترف العذاب، وعند ذلك يكون منهم الصياح والبكاء والشكوى بعد الفوات، ولو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه.

ويوم القيامة تتقطع الأنساب، أي الأسباب المادية بين الناس، بما أنهم سلالة من طين، لأن أسباب الدنيا وأنسابها كانت للدنيا، وقد انقضت، وطوي بساطها، ولا يكون إلا ما يَرْجَح به الميزان، مما عملوه بمقتضى الإيمان، ويكون هذا الجسد الطيني من الذين كفروا كالحًا معرَّضًا للنار، والعياذ بالله.

ويُسألون يوم القيامة: كم مضى لكم في الدنيا التي انشغلتم بها عما يصلحكم وعن معادكم في الآخرة؟ وسيجدون السنين الطويلة في ذلك اليوم كأنها يوم أو بعض يوم، وهو على كل حال قليل في نفسه، وقليل إذا قيس إلى الأبد، ولم يستثمر أيامه في الدنيا إلا المؤمنون، فاستحقوا بذلك الخلود في النعيم، فقد علموا أنهم لم يخلقوا عبثًا، وأن إلههم واحد، وهو أرحم الراحمين. وكما كتب الفلاح للمؤمنين الموصوفين في أول السورة نفى الفلاح عن الكافرين الذين دعوا مع الله إلها آخر بلا برهان، فانتكست بشريتهم لخلوها من الإيمان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين