(نبي الرحمة) (7)

أساليب شتى لمجابهة الدعوة:

لما فرغت قريش من الحج اختارت أساليب تقضي بها على الدعوة في مهدها منها: 

١-السخرية والتحقير، والإستهزاء والتكذيب، فرموا صلى الله عليه وآله وسلم بتهم وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون {وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر:٦] ويصفونه بالسحر والكذب {وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ}[ص:٤] وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ناقمة، {وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:٥١] وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزأوا بهم وقالوا: هؤلاء جلساؤه {...مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ}[الأنعام:٥٣]. 

٢-تشويه تعاليمه وإثارة الشبهات، وبث الدعايات الكاذبة حول ذاته وشخصيته، والإكثار من كل ذلك بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر دعوته، فكانوا يقولون عن القرآن:{...أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:٥] وكانوا يقولون عنه صلى الله عليه وآله وسلم: {مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ} [الفرقان:٧]وفي القرآن نماذج كثيرة للردود على إيراداتهم.

٣-معارضة القرآن بأساطير الأولين، وتشغيل الناس بها عنه. فقد ذكروا أن النضر بن الحارث ذهب إلى الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس صلى الله عليه وآله وسلم مجلسا للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر، ويقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني.

عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قينة، فكان لا يسمع برجل مال إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسلطها عليه تطعمه وتسقيه وتغني له، حتى لا يبقى له ميل إلى الإسلام.وفيه نزل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ الله}[لقمان:٦].

الاضطهادات:

رأى المشركون أن الأساليب التي اتبعوها لا تجدي نفعًا في إحباط الدعوة الإسلامية، فقرروا بعد التشاور بينهم تعذيب المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فانقض كل رئيس يعذب من دان من قبيلته بالإسلام.

كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بالخسارة الفادحة في المال والجاه، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.

كان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته.

ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده، وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه، وكان بلال مولى أمية بن خلف، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان يظهر أثر الحبل في عنقه، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع، وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك: أحد،أحد، ومر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه وأعتقه.

وكان عمار بن ياسر مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون ـ وعلى رأسهم أبو جهل ـ يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرّه، ومر بهم صلى الله عليه وآله وسلم وهم يعذبون فقال: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية ـ أم عمارـ في قُبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه. وقالوا له: لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأنزل الله: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦].

وكان أبو فُكَيْهَةَ مولى لبني عبد الدار فكانوا يبطحونه في الرمضاء، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل، وكانوا مرة قد ربطوا رجله بحبل، ثم جروه وألقوه في الرمضاء وخنقوه حتى ظنوا أنه مات، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله.

وكان خبَّاب بن الأرتّ مولى لأم أنمار الخزاعية، وكان حدادًا، فلما أسلم عذبته بالنار، كانت تأتي بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره ورأسه، ليكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيمانًا.

وكانت زِنِّيرَةُ والنهدية وابنتها وأم عبيس وجارية لبني مؤمل إماءً أسلمن وعُذّبن، وابتاع أبو بكر هذه الجواري وأعتقهن، كما أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة.

وقائمة المعذبين في الله طويلة ومؤلمة جداً، فما من أحد علموا بإسلامه إلا تصدّوا له وآذوه.

يتبع.... 

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين