الذرائع

بسم الله الرحمن الرحيم

اعتمد الإمام مالك رضي الله تعالى عنه على الذرائع باعتبارها أصلاً من الأصول في استنباط الأحكام الفقهية. 

معنى الذريعة: الوسيلة إلى الغاية.

وحكمها: أن الوسيلة إلى المحرم محرمة ويجب سدها، وأن الوسيلة إلى الواجب واجبة ويجب فتحها، والأصل في اعتبار سد الذرائع هو النظر في مآلات الأفعال وما تنتهي في جملتها إليه.

فالذريعة مطلوبة إذا حقَّقت مصلحة مشروعة، وهي مرفوضة إذا حققت مفسدة.

والمعتبر في ذلك: نتيجة العمل وثمرته لا قصد من أخذ بالذريعة ونيته. فإن سب المؤمن للأصنام التي تُعبد من دون الله تعالى تعبير عن نيَّة صالحة ومع ذلك نهى الله تعالى عن ذلك اعتباراً لما يترتَّب عليه وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108] فهذا النهي كان الملاحظ فيه هو النتيجة الواقعة لا النيَّة الدينيَّة المحتسبة.

وقد يقصد الشخص الشر بفعل المباح فيكون آثماً فيما بينه وبين الله تعالى، ولكن ليس لأحد عليه سبيل، ولا يحكم على تصرفه بالبطلان الشرعي كمن يرخص في سلعته ليضر بذلك تاجراً منافسه.

فمبدأ سد الذرائع ينظر فيه إلى النية مع النفع العام ودفع الفساد العام، والنِّية معتبرة في موازين الله جلَّ وعلا، والنتائج في واقع الحياة معتبرة في موازين المصالح الدنيوية.

وقد نجد من التصرفات ما يحقق منفعة فردية على حساب منفعة فرد آخر دون أن يكون في الموقف نفع عام ولا فساد عام، وإن أمكن تحقيق المنفعة بأسلوب لا يضر الغير فلا إشکال في منعه من إيقاع الضرر بالغير، لأنَّ قصد الإضرار واضح كمن يبني جداراً يسد به الشمس والنور والهواء عن جاره دون أن تلجئه إلى ذلك حاجة، أما إن اضطر إلى تحقيق منفعته ولم يكن عن ذلك بُدّ دون قصد الإضرار فلا بأس.

والخلاصة: أن الأصل في سدّ الذرائع هو النظر إلى الصالح العام، فيجب اتخاذ الذريعة لتحقيق مصلحة عامَّة، ويمنع اتخاذ الذريعة درءًا للمفاسد، فالميزان هو جلب المصالح ودفع المفاسد ما أمكن الدفع والجلب.

وليس لشخص أن يستمسك بمصلحة مباحة له إذا أدَّى الاستمساك بها إلى إحداث ضرر عام أو منع مصلحة عامة. 

فتلقي السلع قبل نزولها في الأسواق، وأخذها للتحكم في الأسواق ممنوع لأنه وإن كان في أصله جائزاً – لأنه شراء - فإنه يجب منعه لأنه سيوقع الناس في ضيق.

أقسام الذرائع عند ابن القيم 

1 - ذريعة تفضي حتماً إلى مفسدة:

كتناول الخمر المُفضي إلى السكر، والقذف المفضي إلى الفرية، والزنا المفضي إلى فساد الغرس، ولا يعد هذا القسم من باب الذرائع بل يُعد من المقاصد لأنه في ذاته مفسدة. 

۲ - ذريعة جائزة في ذاتها أو مستحبة لكنها مفضية إلى محرم:

كمن يعقد النكاح قاصداً به تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، وكمن يعقد عقد البيع قاصداً به الربا، أو بغير قصد إلى المحرم كمن يسب أرباب المشركين وهو بين أظهرهم.

3 - ذريعة جائزة لكن قد يكون فيها مفسدة وجانب المصلحة فيها أرجح. 

4- ذريعة جائزة لكن قد يكون فيها مصلحة وجانب المفسدة فيها أرجح.

اقسام الذرائع عند الشاطبي 

قسَّم الشاطبي الذرائع من حيث ما يترتب عليها من المفاسد أو الضرر يلحق الغير وإن كان مأذونا فيه إلى أربعة أقسام:

1 – ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيًّا كحفر بئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه حتماً.

2 - ما يكون اداؤه إلى المفسدة نادراً كحفر البئر في موضع لا يؤدي غالباً إلى وقوع أحد فيه، وهذا باق على أصل الإذن ما دام الفعل مأذوناً فيه، وذلك لأن الأعمال تناط بغالبها لا بنادرها.

3 – ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيراً يغلب على الظن الراجح أنه يؤدي إليها كبيع العنب لمصانع الخمور وهذه ذريعة محظورة.

4 – ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيراً، لكن كثرته لم تبلغ مبلغاً يحمل العقل على ظن المفسدة فيه دائماً كمسائل البيوع الربويَّة التي قد تفضي إلى الربا وهنا يتعارض جانبان قويان من النظر:

أ - النظر إلى أصل الأذن فقد أحلَّ الله تعالى البيع لمصلحة راجحة للفاعل.

ب ـ والنظر إلى ما قد يترتَّب على البيع لأجل من المفسدة التي كثرت وإن لم تكن غالبة كمن يبيع سلعة لأجَل بعشرة ثم يترتب على ذلك أن يشتريها من مشتريها بثمن حال هو خمسة مثلاً. 

فأبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما نظرا إلى أصل الإذن فأجازا البيع بثمن مؤجل لأن العلم أو الظن بوجود المفسدة منتفيان ولا يبنى المنع إلا على علم أو ظن فبقي أصل الإذن من غير معارض يقوم على أساس علمي.

أما مالك رضي الله عنه فقد نظر إلى ما يترتب على هذا البيع من المفاسد التي كثرت وإن لم تكن غالبة فغلَّب درء المفسدة على جلب المنفعة. وبنى مالك رضي الله عنه مذهبه في هذا على أسس ثلاثة.

1- أنه ينظر إلى الواقع لا إلى المقاصد. 

2 - أن تعارض الأصل المأذون فيه مع أصل وجوب دفع الضرر يرجح الثاني. 3 - أن الآثار الصحاح قد وردت بتحريم أمور كانت في الأصل مأذونا فيها لأنها

تؤدي في كثير من الأحوال إلى مفاسد وإن لم تكن غالبة ولا مقطوعاً فيها.

فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخلوة بالأجنبية وسفر المرأة من غير ذي رحم محرم، وعن بناء المساجد على القبور، وحرمت خطبة المعتدة، وهدية المدين، وصوم يوم الفطر.

وذلك: خشية المفاسد التي قد تترتب عليها وإن لم يكن الترتب بغلبة الظن أو بالعلم القاطع.

شروط سد الذرائع عند ابن العربي

إنما يجب سد الذريعة إذا أدَّت إلى محظور منصوص عليه لا إلى مطلق محظور فقد جعل الله النساء مؤتمنات على فروجهن مع عظيم ما يترتب على قولهن في ذلك من الأحكام، وما يرتبط به من الحل والحرمة والأنساب وإن جاز أن يكذبن.

لكن المالكية يتجهون في سد الذرائع إلى سد وسائل الفساد مطلقاً سواء أكان الفساد منصوصاً على تحريمه بنص خاص أو كان داخلاً في النهي العام عن الضرر والضرار وعن كل فساد.

وكما أخذ مالك بسد الذرائع إلى الفساد، أخذ كذلك بفتح الذرائع إلى الخير والمصلحة.

والذريعة بهذا عند المالكية تعتريها الأحكام الخمسة بالنظر إلى نتائجها.

ما الحكم إذا تعارض المحظور مع المصلحة؟؟ 

المصلحة هي الغرض المقصود من الشرائع. فيباح المحظور إذا أدَّى إلى مصلحة مؤكدة تكون أكبر من الضرر الناشئ من المحظور بحيث يكون الضرر الذي يدفع بتحقيق هذه المصلحة أكبر من الضرر الذي ينشأ من ارتكاب المحظور.. في ضوء ذلك يصير ذلك المحظور في أصله في مرتبة المأذون فيه لتتحقق تلك المصلحة أو ليتحقق دفع الضرر الأكبر، وذلك كدفع مال للمحاربين فداء للأسرى من المسلمين، ودفع رشوة لظالم ليصرفه عن معصية يريد ارتكابها وضررها أشد من ضرر الرشوة، ودفع مال لدولة محاربة لدفع أذاها الذي تعجز جماعة من المسلمين عن دفعه.

مبدأ الذرائع بين مالك وغيره 

ادعى بعض الفقهاء أن مبدأ الذرائع ليس في أصول فقه أحد من الفقهاء سوى مالك لكن المالكيين يذكرون أن الفقهاء شاركوهم في كثير من مسالكه وإن لم يسموها بذلك الاسم.

قال القرافي في تنقيح الفصول: 

أجمع الفقهاء على أن الذرائع ثلاثة أقسام:

أحدها: معتبر اجماعاً، كسبِّ الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى.

وثانيها: لا عبرة به إجماعاً كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر.

وثالثها: مختلف فيه كبيوع الآجال: نحن اعتبرنا الذريعة فيها وخالفنا غيرنا فحاصل القضية أننا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصَّة بنا.

مثال: من باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر.

فمالك يقول: إنه أخرج من يده خمسة الآن، وأخذ عشرة آخر الشهر!! فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل وراء ستار من البيع الصوري.

والشافعي ينظر إلى صورة البيع فيجيزها ويحمل الأمر على ظاهره لأن الربا وإن يكن حراماً فإن صورة هذا البيع لم تتعين وسيلة للربا وذريعة إليه لا بطريق العلم ولا بطريق الظن، وإن كثر ترتب الغاية المحرمة على تلك الصورة من صور البيع، فمالك يعتبر الكثرة ركيزة التحريم، والشافعي يعتبر أن الأصل في التصرف هو الأذن ولا يلغي هذا الأصل إلا لدليل يوجب العلم أو غلبة الظن على الأقل، ولا يكفي الحدس لإلغاء الأصل في البيع.

أصل الحكم في الذرائع

في القرآن قال تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108] 

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾ [البقرة: 104].

وفي السُّنَّة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمتنع عن قتل المنافقين كي لا يقول الناس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه. 

ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدائن عن قبول الهدية من المدين إلا أن يحسبها من دينه سدًّا لذريعة إلى الربا.

ونهى عن قطع الأيدي في الغزو سدًّا لذريعة فرار المحدودين إلى المحاربين. 

ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن احتكار الذي يضيق عن الناس وقال :(لا يحتكر إلا خاطئ)

هذا ولقد عُدَّت الذرائع بفتحها وسيلة إلى المصلحة أو بسدِّها سبيلاً إلى المضرَّة نصف شرائع الإسلام، وكانت قطب الرحى في مذهب الإمام مالك، وبهذا كان مذهباً (خصیباً) فيَّاض العطاء.

ورضي الله عن مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وعن سائر الأئمة المجتهدين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

المصدر: بحوث المؤتمر الرابع للفقه المالكي، رجب ١٤٠٦، نيسان ١٩٨٦

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين