لغة المثل في القرآن الكريم

الحمد لله القائل: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وسار على نهجه، وبعد:

فإن الأمثال لسهولة حفظها، وقلة ألفاظها، ودقة تعبيرها، يكثر تداولها ودورانها على الألسنة، وكانت للعرب بها عناية كبيرة؛ لأنها تكسو الكلام فخامة، وتضع له القبول في النفوس، وتأخذ بأسماع السامعين وألبابهم، فيتمكن المتكلم من حجته، والمجادل في حلبته.

ولما كانت الأمثال حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، ولما كان القرآن جاريا على سَنَن العرب في كلامها، فإن القرآن قد اشتمل على الأمثال، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله أنزل القرآن على خمسة أحرف: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأَحِلَّ الحلال، وحَرِّم الحرام، واعمل بالمحكم، وآمن بالمتشابه، واعتبر بالأمثال".

وهذا المقال إنما يعرض لشيء من الصياغة اللغوية لأحد الأمثال القرآنية، وهي العلاقة بين طرفي التشبيه وتخالف الضمائر العائدة عليهما، حيث يكون أحد طرفي التشبيه جمعا، والطرف الآخر مفردا، والتنقل بين ضمائر الإفراد والجمع، وهو ما يسمى الالتفات، وذلك ببيان السبب الذي من أجله وقع هذا التخالف، وذلك في قول الله تعالى ضاربا المثل للمنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17].

فقد يرد التساؤل هنا عن سبب الانتقال من ضمائر المفرد (استوقد، حوله) إلى ضمائر الجمع (بنورهم، وتركهم، لا يبصرون)، وكلها داخلة في جملة الصلة عائدة على موصول واحد وهو مفرد (الذي). واستوقد هنا بمعنى أوقد، وليس في الألف والسين والتاء معنى الطلب في هذا الفعل، وإنما هو مما جاء فيه استفعل بمعنى فعل أو أفعل.

وللإجابة عن هذا التساؤل، ينبغي النظر إلى الطرف الأول في التشبيه، وهو قوله تعالى: (مثلهم) وهو دال على جمع، بينما المشبه به مفرد (كمثل الذي استوقد)، والمتأمل المتأني في سياق الآية يدرك أن الآية تشبِّه آحاد المنافقين بالموقد نارا، فالمعنى: مثل كل واحد من هؤلاء المنافقين كمثل الموقد نارا، فلما كان حالهم جميعا واحدا، جاء المشبه به مفردا (الذي استوقد)، ولما كان المآل واحدا لكنه يعود على كل فرد من أفرادهم، عاد الضمير جمعا مرة أخرى (بنورهم، وتركهم، لا يبصرون).

التوجيه الثاني، وهو الذي يقول به المحققون من المفسرين، وهو أن المشبه والمشبه به مضافان محذوفان، وأقيم المضاف إليه فيهما مقامهما، فيكون تأويل الكلام: مثل استضاءة هؤلاء المنافقين بما أظهروا من التوحيد، كمثل استضاءة الموقد نارا، وقد أشار الإمام الطبري إلى ذلك بقوله: "فأما تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد، فإنما جاز لأن المراد من الخبر عن مثل المنافقين؛ الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون، من اعتقاداتهم الرديئة، وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر. والاستضاءة - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنى واحد، لا معان مختلفة، فالمثل لها في معنى المثل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص" [تفسير الطبري 1/ 318، 319].

غير أن التوجيه الأفضل - فيما أرى - ربما يكون: مثل عاقبتهم كمثل عاقبة الموقد نارا .. إلخ، غير أن هذا لا يفسر سبب انتقال الضمير من الإفراد إلى الجمع في قوله: (بنورهم)، فلزم الرجوع مرة أخرى إلى التوجيه الأول، ويكون التأويل: مثل عاقبة كل فرد من هؤلاء المنافقين كمثل عاقبة الموقد نارا، فلما كان حالهم جميعا واحدا، جاء المشبه به مفردا (الذي استوقد)، ولما كان المآل واحدا لكنه يعود على كل فرد من أفرادهم، عاد الضمير جمعا مرة أخرى (بنورهم، وتركهم، لا يبصرون)، كما سبق في التوجيه الأول.

وهذا التركيب نجده كذلك في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261]. وفي قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة: 265].

ففي هاتين الآيتين جاء المشبه جمعا، والمشبه به مفردا، والجواب في كل ذلك واحد، وهو حذف طرفي التشبيه المضافين، وإقامة المضاف إليه مقامهما، ويكون التأويل: مثل أجر نفقتهم كمثل نتاج حبة، وكمثل نتاج جنة بربوة.

هناك توجيه ثالث، وهو متعلق بدلالة الموصول هذه المرة، فقد ذهب ابن قتيبة إلى أن (الذي) في قوله: (الذي استوقد) لغة لبعض العرب بمعنى (الذين)، ومفرده (اللذ)، ومثناه (اللذا)، واحتج بقول الشاعر:

وإنَّ الذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُم *** هُمُ القَوْمُ كُل القَوْمِ يا أُمَّ خَالِد

وتأويله: وإن الذين حانت بفلج دماؤهم، وهو شاهد نحوي معروف، غير أن ذلك لا يصلح هنا؛ لأن الضمير المستتر في الفعل (استوقد) في جملة الصلة مفرد، والضمير العائد من جملة الصلة يجب أن يطابق الموصول في العدد والنوع، وهذا غير متحقق هنا، فلزم أن (الذي) موصول مفرد وليس جمعا، بخلاف الضمير في كلمة (دماؤهم) فإنه جمع.

وهناك توجيه رابع متعلق أيضا بدلالة الموصول، وهو قول بعض أهل اللغة ومنهم ابن الأنباري، فقد ذهب إلى أن (الذي) على حاله من الإفراد، لكنه لما كان مبهما أدى معنى الجمع، وقام مقام (الذين)؛ كما في مثل قول الناس: أوصي بمالي للذي غزا وحج، ومعناه: للغازين والحاجين، ولذلك جاء الضمير مفردا في (استوقد) [انظر: التفسير البسيط للواحدي 2/ 194].

فهذه هي التوجيهات التي يمكن حمل الالتفات في الضمائر عليها، ما عدا التوجيه الثالث، والله أعلم.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين