التغلُّب مفسدة تسقطُ به العدالة ولا تُصحَّح به الولاية (3)

الفسق والتغلُّب عند الجويني (3)

المبحث الثاني: الفسق والتغلُّب عند الجويني

1- تقسيم الجويني لدرجات الفسق التي يرتكبها الحاكم ومدى تأثيرها على ولايته 

ناقش الجويني هذه المسألة مبينًا أن طوائف من الأصوليين والفقهاء ذهبوا إلى أنَّ الفسق إذا تحقق أوجب انخلاع الإمام مثله مثل الجنون، وهؤلاء لا يفرقون بين فسقٍ في الابتداء وفسق في أثناء توليه للحكم، وعلة من قال بانخلاعه هو أن الحاكم أمين، والفاسق لا يؤتمن، وذكر الجويني رأيًا آخر لبعض العلماء، مفاده أن الفسق لا يتضمن الانخلاع بحدِّ ذاته، ولا بدَّ من أهل الحل والعقد لخلعه، ولم يرض الجويني هذه الأقوال لعسر استمرار الإنسان في ملازمة التقوى ليل نهار وخاصةً الحاكم مع اتِّساع دولته وكثرة مشاغله(1).

وهذا يعني التفرقة بين أن يكون الفسق ابتداء وأن يكون أثناء ممارسته للحكم، فهو لا يقبله ابتداء يقول الجويني: "فإن قيل: فلم منعتم عقد الإمامة لفاسق؟ قلنا: أهل العقد على تخيرهم في افتتاح العهد، ومن سوء الاختيار أن يعين لهذا الأمر العظيم والخطب الجسيم فاسق، وهم مأمورون بالنظر للمسلمين من أقصى الإمكان، وأما الذهاب إلى الانخلاع بعد الاستمرار والاستتباب مع التعرض للزلات فمُفسِد لقاعدة الولاية، ولا خفاء بذلك عند ذوي الدراية"(2).

والمعتبر في هذا الأمر عند الجويني هو الكبائر الظاهرة دون الصغائر، يقول الجويني: "الهنات والصغائر محطوطة، وما يجري من الكبائر مجرى العثرة والفترة من غير استمرار عليها لا يوجب عندنا خلعًا ولا انخلاعًا...، ولو كان القائم بأمور المسلمين يتعاطى على الدوام ما هو من قبيل الكبائر كالشرب في أوانٍ ولكنه كان مثابرًا على رعاية المصالح، فالقول في ذلك لا يبلغ مبلغ القطع عندي، وقد يخطر للناظر أنه إذا لم يتضمن ذلك خرمًا وفتقًا ولم يمنع الإمامُ ذا حقٍّ حقًّا ففرضُ الدوام فيه نازل منزلة كبيرة تندُر...، والأظهر عندي أن ذلك مؤثر فإن الكبيرة إذا كانت عثرة فإنها لم تَجُرّ خبالًا ولم تتضمن سوء الظنون...، فأما الفسق المؤثِّر فالقول فيه ينقسم؛ فإن كان يحتاج في إظهار خلله إلى اجتهاد فلا نقضي بأنه يتضمن الانخلاع بنفسه، بل الأمر فيه مفوض إلى نظر الناظرين واعتبار المعتبرين"(3).

من الواضح أنَّ الصغائر لا يمكن أن نجعلها مقياسًا لخلع الحاكم وكذا الكبائر النادرة، ومقياس النادر وغيره هو ظهوره منه، ولكن قد لا يظهر عليه شخصيًّا، فربما تراه مداوما على المناسبات الدينية كما كان النافق حافظ الأسد وما عليه ابنه، فلا ترى عليه شخصيًّا إدانة فهو يصلي الأعياد ويحضر المناسبات الدينية ويدعو العلماء إلى وجبة إفطار...، فكيف يتم الحكم عليه؟

نفهم من كلام الجويني السابق أنَّ مرجع الأمر إلى نظر واعتبار من بيدهم الحلُّ والعقد أو من عندهم خبرة في ذلك، فهم يقيسون ذلك، وما عليه هؤلاء من حرصٍ شديد بالابتعاد شخصيًّا عن المعاصي والاهتمام بالمناسبات الدينية... لا يكفي إذا كان الظلم سائدًا والرشوة فاشية والربا منتشرًا ودور البغاء ظاهرة والمال العام منهوبًا...، وهذا نفهمه من قول الجويني "إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة ووضحت الخيانة، واستجرأ الظلمة ولم يجد المظلوم منتصفًا ممن ظلمه، وتداعَى الخَلل والخطل إلى عظائم الأمور وتعطيل الثغور، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم...؛ وذلك أن الإمامة إنما تُعنَى لنقيض هذه الحالة، فإذا أفضى الأمر إلى خلاف ما تقتضيه الزعامة والإيالة فيجب استدراكه لا محالة، وترك الناس سدًى ملتطمين لا جامع لهم على الحق والباطل أجدى عليهم من تقريرهم على اتباع من هو عون الظالمين وملاذ الغاشمين وموئل الهاجمين ومعتصم المارقين الناجمين"(4).

هذه الحال التي تحدَّث عنها الجويني -رحمه الله- هي أحسن الأحوال في الكثير من مجتمعاتنا وخاصَّة في بلدنا سورية، وذكر أيضًا أننا إذا وجدنا حاكمًا مستوفيًا للشروط فإننا ننصبه، وحكم حكمًا عامًّا يُتَّخَذُ أساسًا في الحاكم، وهو أنه إذا "لم يكن ذا كفاية، ولم يكن موثوقا به لفسقه، لم يجز نصبه، ولو نصب لم يكن لنصبه حكم أصلا"(5)، وهذا الحكم مهم ينبغي استحضاره في أذهاننا، وهو أنَّ الفاسق لا يجوز نصبه بحالٍ من الأحوال، وأنه لا يتحول مهما امتد الزمن به إلى حاكمٍ مستوفٍ شروط الحكم.

ويرى الماوردي أن الفسق المتعلق بأفعال الجوارح هُوَ ارْتِكَابُهُ لِلْمَحْظُورَاتِ وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ تَحْكِيمًا لِلشَّهْوَةِ وَانْقِيَادًا لِلْهَوَى، فَهَذَا فِسْقٌ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى مَنِ انْعَقَدَتْ إمَامَتُهُ خَرَجَ مِنْهَا"(6).

2- التغلُّب عند الجويني

أوسعُ من تناول المسألة الإمام الجويني في كتابه "غياث الأمم في التياث الظلم"، وقد فتح الله تعالى عليه في المسألة ضابطًا لكل الوجوه سالكًا في ذلك مسلك السبر والتقسيم، وقد نقلنا فيما سبق طَرَفًا من كلامه، وصدَّر الكتاب بكلامٍ رائع في الغاية من نصب الإمامة، قال: "الإمامة رياسة تامة وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، مهمتها حفظ الحوزة ورعاية الرعية وإقامة الدعوة...، والانتصاف للمظلومين من الظالمين واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفاؤها على المستحقين"(7).

وإذا نصَّب نفسه بالقوة ودعا الناس إلى الخضوع له فنحن أمام ثلاث حالات في رأي الإمام الجويني:

الحالة الأولى: أن يسعى للحكم بالقوة وهو أهل له مع افتراض كونه وحيدًا مستكملًا الشروط اللازمة للإمامة، فهنا صورتانِ:

الصورة الأولى: أن يكون هو الوحيد المتصف بهذه الصفات دون غيره، وليس لدينا أهل حلٍّ وعقد، "فإذا استظهر بالقوة وتصدى للإمامة، كان إمامًا حقًّا، وهو في حكم العاقد والمعقود له"(8)، والدليل على هذا عنده "أن الافتقار إلى الإمام ظاهر، والصالح للإمامة واحد، وقد خلا الدهر عن أهل الحل والعقد، فلا وجه لتعطيل الزمان عن والٍ يذب عن بيضة الإسلام، وهذا مقطوع به"(9). وينبغي أن لا يغيب عنَّا أن الدافع الأساس لتصحيح هذا النوع هو الحرص على الإسلام، وأن هذه المسألة نظرية محضة استدعاها منهج السبر والتقسيم.

الصورة الثانية: أن يكون هو الوحيد ولكنْ لدينا أهل حل وعقد، ولهذه المسألة وجهان:

الأول: أن يمتنع من هو من أهل العقد عن الاختيار والعقد للمتقدم الذي عنده الكفاءة مع كونه واحدًا، ففي هذه الحال "يتعين إجابته واتباعه على حسب الاستطاعة بالسمع والطاعة، ولا يسوغ الفتور عن موافقته في ساعة"(10).

الثاني: ألا يمتنع مَن هو من أهل للاختيار والعقد عن اختيار المتقدم بالقوة مع كونه واحدًا، وفي هذه الحال يرى الجويني أنه لا بدَّ لأهل الحل والعقد من اختياره والعقد له على رأي، لكن ردَّه مبينًا أنه "لا حاجة إلى إنشاء عقدٍ وتجريدِ اختيارٍ وقصد"؛ فالاختيار يكون حال التعدُّد ابتعادًا عن التنازع، والمسألة هنا في شخص واحدٍ متقدم للإمارة، فالتنازع لا يتُصوَّر فيها، علمًا أن الرجل الفرد -وإن استغنى عن الاختيار والعقد- لا بد من أن يستظهر بالقوة والمنعة ويدعو الجماعة إلى الطاعة، فإن فعل ذلك فهو الإمام على الجميع على أهل الوفاق والاتباع وعلى أهل الشقاق والامتناع"(11).

وإن لم يكن مُستظهرًا بعدة ونجدة فيجب على الناس اتباعه لتعينه لهذا المنصب، فإذا دعا الناس إلى الإذعان له فاستجابوا له طائعين "فقد اتسقت الإمامة، واطردت الرياسة العامة، فإن دعاهم ولم يطيعوا عصوا، وإن أطاعه قوم يصير مستظهرًا بهم على تثبت إمامته ويكون الموافق معه على المخالف، وإن لم يطعه أحد مع دعوته إلى ذلك أو اتبعه ضعفاء لا تقوم بهم شوكة وقوة فهذه الصورة تضطرب فيها مسالك الظنون...، فتعصي الخلائق لتقاعدهم عن نصب إمام يندفع به النزاع والدفاع والخصومات الشاجرة والفتن الثائرة، وتتسق به الأمور وتنتظم به المهمات والغزوات والثغور"(12) يُلحظ في هذا الحرص على الأمة، فالغاية من الإمامة عند الجويني وغيره هو حماية الأمة وجمع الكلمة، لكن هل يكون المتقدِّمُ إمامًا في هذه الصورة؟ يرى الجويني أنَّ جواب هذه المسألة ليس واحدًا، فيصح القول بأنه "إمام وإن لم يُطع، وينفذ ما يمضيه من أحكامه على موافقة وضع الشرع...، ولا معنى لكون الإمام إمامًا إلا أن طاعته واجبة، وهذا الذي فيه الكلام بهذه الصفة، فهو إمام يجب اتباعه فتنفذ إذًا أحكامه، وهذا متجه عندي واضح والأول ليس بعيدًا أيضًا؛ فإن قاعدة الإمامة الاستظهار بالمنة والاستكثار بالعدة والقوة، وهذا مفقود في الذي لم يُطع"(13).

من البيِّنِ أنَّ الجويني يُرجِّحُ هنا أنه يكون رئيسًا ولو لم ينتخبه أحدٌ أو انتخبه ضعفاء لا تقوم بهم شوكة، واستبعد القول بأنه لا يكون رئيسًا لأن الثمرة المرجوة من الرئاسة لا تتحقق إلا بالاتباع ووجود شوكة له، ولا أرى ثمرة واضحة في كلا الصورتين إلا أنه في الصورة الأولى يقع الإثم على من لم يتبعه وينقَدْ له عند من يرى ضرورة اتباعه، وأما في الصورة الثانية فيرتفع الإثم عمن تبعه مع عدم استكمال الشوكة، ويرتفع الإثم أيضا عمن قدَّم نفسه ولم يقع اختياره، وتقديمه لنفسه ضروري عند الجويني، فإذا آثر "التقاعد والاستخلاء لعبادة الله -عز وجل- مع علمه بأنه لا يسد أحد مسده كان ذلك عندي من أكبر الكبائر وأعظم الجرائر، وإن ظن ظان أن انصرافه وانحرافه سلامة كان ما حسبه باطلًا قطعًا، والقيام بهذا الخطب العظيم إذا كان في الناس كُفاة في حكم فرض الكفاية، فإذا استقل به واحد سقط الفرض عن الباقين، وإذا توحد من يصلح له صار القيام به فرض عين"(14) فإذا آثر التقاعد ولم يقدِّم نفسه فهو مع إثمه لم يكن "إمامًا باتفاق العلماء أجمعين"(15).

الحالة الثانية: أن يكون من يصلح للإمامة أكثر من واحد ويستولي واحد منهم بالقوة استبدادًا بالأمر من غير اختيار وعقد، فيرى الجويني أنَّ هذا النوع يعسر تصويره، وجوابه بحسب الصور؛ فإنْ كان الناس من غير إمام ولم يتقدم أحد حتى طالت "الفترة وتمادت العسرة، وانتشرت أطراف المملكة، وظهرت دواعي الخلل، فتقدم صالح للإمامة داعيًا إلى نفسه محاولًا ضم النشر وردَّ ما ظهر من دواعي الغرر، فإذا استظهر بالعدة التامة من وصفناه فظهور هذا لا يحمل على الفسوق والعصيان والمروق، فإذا جرى ذلك وكان يجُرُّ صرفُه ونصبُ غيرِه فتنًا وأمورا محذورة، فالوجه أن يوافق ويلقَى إليه السَّلَم وتصفِّق له أيدي العاقدين"(16) ومن المهم أن ننتبه هنا إلى القيود التي وضعها الجويني: عدم تقدم أحد، وطول الفترة، واتساع الملك، وظهور دواعي الخلل بسبب عدم وجود حاكم، ففي هذه الحالة لا يوصف تقدمه بالفسوق مع ملاحظة أهليته لذلك وتوفر شروط الإمامة.

وثمَّة مسألة في غاية الأهمية وهي: هل تثبت رئاسته بمجرد تقدمه أم لا بدَّ مع هذا من الموافقة والاختيار من غيره؟ ينقل الجويني عن بعض أئمته من غير ذكر أسمائهم أنه إذا عسرت مدافعته وكان أهلًا للإمامة فيتعين تقريره، ولا معنى للاختيار لأن الاختيار يكون له أثر إذا تعين أكثر من واحد، ولم يكن أحدهما أولى من الآخر، ولم يتأت الجمع بينهما، فالاستظهار بالقوة مع تعذر المعارضة والمناقضة يتضمن ثبوت الإمامة(17). ولا يرضى الجويني بهذا المسلك ويضع له قيودا كثيرة، وإليك نصَّه كلَّه لأهميته، يقول: "والمرضيُّ عندنا المسلك الأول فيجب العقد له لما فيه من تقرير غرض الإمامة وإقامة حقوقها وتسكين الفتنة الثائرة...، فإن الذي ينتهض لهذا الشأن لو بادره من غير بيعة وحاجة حافزة وضرورة مستفزة، أشعر ذلك باجترائه وغلوه في استيلائه وتشوفه إلى استعلائه، وذلك يسِمه بابتغاء العلو في الأرض بالفساد، ولا يجوز عقد الإمامة لفاسق؛ وإن كانت ثورته لحاجة ثم زالت وحالت، فاستمسك بعدته محاولًا حمل أهل الحل والعقد على بيعته، فهذا أيضا من المطاولة والمصاولة، وحمل أهل الاختيار على العقد له بحكم الاضطرار، وهذا ظلم وغشم يقتضي التفسيق، فإذا تصورت الحالة بهذه الصورة لم يجز أن يبايع، وإنما التصوير فيه إذا ثار لحاجة ثم تألبت عليه جموع لو أراد أن يتحول عنهم لم يستطع، وكان يجر محاولة ذلك عليه وعلى الناس فتنًا لا تطاق ومحنا يضيق عن احتمالها النطاق، وفي استقراره الاتساق والانتظام ورفاهية أهل الإسلام...، والمختار أنه -وإن وجب تقريره- فلا يكون إمامًا ما لم تَجْرِ البيعة، والمسألة في هذا الذي ذكرناه مظنونة، والمقطوع به وجوب تقريره"(18) يمدنا هذا النص القيم بدلالات عدة -وقد سبق شيء منه-:

1. ضرورة العقد لمن وُجدت فيه مؤهلات الحاكم الذي يريد السلطة بالقوة عندما يكون مؤهلا ولايتقدم أحدٌ غيره، والأصل الذي تنبي عليه ضرورة الاستجابة له حماية الأمة ومصالحها.

2. الدافع الذي يدفع الحاكم إلى التَّجرؤ والتغلب هو الحرص على الأمة مع عدم تقدُّم غيره وليس الحرص على المصالح الشخصية، فإن لم يكن مؤهلًا لذلك أو علمنا أنَّ الحفاظ على الأمة ليس من أولوياته فلا استجابة له. 

3. على من يتقدم لهذا الشأن أنْ يطلب البيعةَ لنفسه؛ فلا يكون رئيسًا بتقدُّمه للحكم مع سكوته وعدم طلبه للبيعة، ففي عدم طلبه مع تمسكه بالحكم استخفاف بغيره وتعالٍ عليهم، وذلك نوع من الفساد في الأرض .

4. الدافع الأصلي لتغلُّب الضرورة الحفاظ على مصلحة الأمة، وهذه ضرورة فإذا ارتفعت فليس له حمل الناس ممن بيدهم الحل والعقد على اختياره بالقوة فإنه ظلم وفسق، فإذا كانت الحالة كذلك لا يجوز أن يُبايَع .

5. إذا استولى على الأمر بالقوة نظرا لحاجة الأمة إليه وتجمَّع الناس حوله ولم يستطع ترك الأمر لما يثيره ذلك من فتنٍ "يضيق عن احتمالها النطاق، وفي استقراره الاتساق والانتظام ورفاهية أهل الإسلام"، وجب على الأمةِ تقريره على الرئاسة نظرًا للحاجة، لكنَّه لا يكون إمامًا بطريق صحيح مالم تكن هناك بيعة له، فالمبايعة أمرٌ ضروري للتمييز بين حالة الضرورة وحالة الاختيار، وبالاختيار يكون الطريق إلى الرئاسة اختيارًا ولا يكون اضطرارًا، ولكلٍّ منهما آثار فقهية مترتبة عليها. 

الحالة الثالثة: الاستيلاء على الحكم ممن عنده كفاية ونجدة لكن لم يستوفِ صفات الحاكم، فهنا ينقسم الحال عنده قسمين: إما أن يكون هناك من يجمع صفات الإمامة أو لا يكون؛ فإن لم يكن وخلا الزمان من مستجمع لشرائط الإمامة، فإنْ نصَّب أهل الحل والعقد شخصًا كان التنصيب كافيًا وقام مقام من له السمع والطاعة لشغور الزمان عمن توجد فيه هذه الصفات، وترك الناس من غير ذلك يوقع الناس في فوضى، وإنْ لم يُنصِّبه أهل الحل والعقد وقام بالاستيلاء على الحكم بنفسه واستظهر بعدته، وقام بالذب عن بيضة الإسلام وحوزته مع تحقق صفات الإمامة فيه، فالأمر فيه كالحالة الثانية وتفريعاتها(19)، فإن لم يكن متحققا بصفات الإمامة وكان المتغلب مع ذلك متصفًا بالكفاية والشهامة فإنه يتعين تنصيبه، و"تفصيل تعينه كتفصيل تعين من يصلح للإمامة كما تقدم حرفًا حرفًا"(20).

والذي ينبغي ملاحظته أنَّ الجويني لم يناقش شخصًا تقدَّم للإمامة أو استولى عليها وهو في الأصل ليس أهلًا ولا يملك نجدة وشهادة، والسبب في هذا أنه لا يصلح إمامًا ولا يجوز تنصيبه، وهذا هو حال كثيرين ممن يقومون بالانقلاب اليوم، بل إنَّ كيد بعضهم ومكرهم وبيعهم للأوطان وسرقتهم للأموال العامة ونشر الرذيلة واستطالتهم على الناس وقتلهم لهم وإراقتهم لدمائهم وكرامتهم وصلت إلى حالٍ لا تخطر في بالٍ، وهذا بعض ما كان عليه حافظ الأسد المقبور وما عليه ابنه المعتوه، الذي دمَّر البلاد والعباد وجعلها مرتعا لمنتهكي الأعراض ومغتصبي الأموال وسفَّاكي الدِّماء.

خاتمة

اتَّضح مما سبق أنّ التغلبَ فسقٌ وكبيرة تُسقط عدالة المتغلب، وأنَّ القول بولايته ليس تصحيحًا لولايته، بل لمصلحة أخرى رتبها الفقهاء على ذلك متمثلة بصحة التصرفات التي تنفذ منه، وهذا لاعلاقة له بصحة ولايته، فالسكوت عليه والاستمرار معه ليس حالة طبيعية، وخير ما يُعبَّر به عن ذلك أنها حالة اضطرار مثل أكل لحم الميتة والخنزير، فالآكل لو استمر على ذلك سنوات يبقى هذا الفعل في إطار الاضطرار.

وتبين أن تصحيح ولاية المتغلب فيه نقض لمقاصد الشرع، وأن التغلب ليس مسلكًا من المسالك التي تُعتمد للاستيلاء على الحكم، وأنَّ مقصد المتغلب الأصلي كان حمايةَ الأمَّة من الضياع والتشتُّت لا المصالح الشخصية، وهذا يعني أنَّ المتغلب مؤهلٌ في الأصل للحكم لكنَّه استعجل الشيء قبل أَوانه ولم يَستشِر أصحاب الاختصاص؛ فهو باغٍ متغلِّب لا تُصحَّح ولايته مهما استمرت.

المصدر: مجلة مقاربات التي تصدر عن المجلس الإسلامي السوري، العدد الثامن

انظر الحلقة الثانية هـــنا

--------

(1) غياث الأمم، ص102.

(2) المرجع نفسه، ص105. 

(3) المرجع نفسه، ص120.

(4) المرجع نفسه، ص109.

(5) المرجع نفسه، ص316.

(6) الأحكام السلطانية للماوردي، ص42.

(7) غياث الأمم، ص22. 

(8) المرجع نفسه، ص317. 

(9)المرجع نفسه، ص318.

(10) المرجع نفسه، ص318. 

(11) المرجع نفسه، ص321.

(12) المرجع نفسه، ص321. 

(13) المرجع نفسه، ص323. 

(14) المرجع نفسه، ص324. 

(15) المرجع نفسه، ص324. 

(16) المرجع نفسه، ص325.

(17) المرجع نفسه، ص326. 

(18) المرجع نفسه، ص327. 

(19) المرجع نفسه، ص328.

(20) المرجع نفسه، ص328.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين