أمن الإنسان في ضوء القرآن (3)

الأمن الاجتماعي والاقتصادي والعسكري

المطلب الثالث: الأمن الاجتماعي

لا شك أن الأمن الاجتماعي من العوامل الأساسية في حياة الفرد والمجتمع، فهو نعمة من أعظم النعم الإلهية، ومعناه شعور الفرد بالانتماء للمجتمع، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126] لقد جعل الله عز وجل الأمن من خصائص بيته المحرم الذي له من المنزلة والفضل والمكانة ما ليس لغيره، وكان المطلب الأول في دعوة إبراهيم الخليل -عليه السلام- ربه أن يجعل البيت الحرام آمنًا يأمن فيه الناس على أموالهم ودمائهم وعبادتهم؛ ذلك أن "الأمن هو الأساس والمنطلق للتنمية والتطور، وهو السلاح الفاعل في مواجهة الخوف، وهو الصيانة والوقاية لمنجزات الحاضر والمستقبل"(1).

ومن الأمن الاجتماعي قوله تعالى حكاية عن أم موسى عليه السلام: {وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]، "وَقالَتْ لِأُخْتِهِ أي: لمريم أخت موسى، قُصِّيهِ أي: اتبعي أثره حتى تعطي خبره، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أي عن بُعْد، قيل: كانت تمشي جانبًا وتنظره اختلاسًا ترى أنها لا تنظره، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أنها أخته وأنها ترقبه"(2) مخافة أن يكشف أمرها، ففي هذا النص القرآني توجيه أمني تؤخذ منه العبرة والعظة.

ونلمس توجيهًا للأمن الاجتماعي في قصة أصحاب الجنة، فالقصة تضرب مثلًا للقيم الزائلة والقيم الثابتة، وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة الحياة الدنيا حيث تذهلها الثروة وتبطرها النعمة، وللنفس المعتزة بإيمانها بالله سبحانه، فهي ترى النعمة دليلًا على المنعم يوجب الحمد والشكر، وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس، قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا. وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا. وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَدًا. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا. لَّـٰكِنَّا هُوَ اللَّـهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا. وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّـهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّـهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا. فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا. أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا. وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا. هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّـهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:32-44].

ترشد هذه القصة إلى أن شكر النعمة سبب لدوامها، ويأمن أصحابها على أنفسهم وأموالهم، وأما كفر النعمة فيسبب زوالها وزوال الأمن عن أصحابها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا)(3) قال أبو حامد الغزالي: "فلا ينتظم الدين إلا بتحقق الأمن على هذه المهمات الضرورية، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقًا بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة؟"(4).

المطلب الرابع: الأمن الاقتصادي

عرفه أحد الباحثين قائلًا: "هو أن يملك المرء الوسائل المادية التي تُمكنُه من أن يحيا حياة مستقرة ومشبعة"(5)، لكن هذا التعريف جعل الأمن الاقتصادي قاصرًا على أمن الفرد من حيث توفيرُ احتياجاتِه واستقرارِه، بينما يتعدى مفهومُ هذا المصطلح أمنَ الفرد ليشمل أمنَ المجتمع واستقرارَه، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126. جمعت هذه الآية بين الأمن واحتياجات الإنسان الضرورية الداعية لاستقراره كالطعام والشراب، فلا بد لشعور الناس بالأمن من توفر حاجتهم المعيشية وقناعتهم وطمأنينتهم بما يصل لهم؛ فالأمن الاقتصادي شرعًا هو: "تأمينُ المواردِ والاحتياجاتِ التي توفر الاستقرار وتحفظ النفوس، وتأمينُ طرقِ وُصُولِها"(6).

ويظهر الأمن الاقتصادي جليًّا في قوله تبارك وتعالى: {وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]، أي "كان أهلها في أمنٍ واستقرار وسعادة ونعيم {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ} أي تأتيها الخيرات والأرزاق بسعةٍ وكثرةٍ من كل الجهات {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} أي لم يشكروا الله على ما آتاهم من خير وما وهبهم من رزق؛ {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} أي سلبهم اللهُ نعمة الأمن والاطمئنان، وأذاقهم آلام الخوف والجوع والحرمان"(7).

ولكون الأمن ضروريًّا للحياة قرنه الله سبحانه بالطعام والأموال والأولاد في أكثر من موضع، بل قدَّمه عليها في مثل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] فقد بدأ بضد الأمن وهو الخوف لأن الحياة بدون أمن وأمان لا تطاق، وامتن الله تعالى على قريش قبل بَعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأن هيأ لهم الأمن خاصة بعد حادثة الفيل حيث جاء نصر الله على أبرهة وأصحابه، لكن لم يكن بيد قريش لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـٰذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش:3-4] ولهذا جاءت سورة قريش عقب سورة الفيل، فعاشت قريش بعد هذا آمنة مطمئنة في كنف الكعبة، لا ينالها أحد بسوء رغم كثرة النهب والسلب والخوف، بل تعدى الأمن إلى قوافلها التجارية في رحلتي الشتاء والصيف لأنها تجارة أهل البلد الأمين، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّـهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67] قال الزمخشري: "والتنكير في جُوعٍ وخَوْفٍ لشدتهما يعني: أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وآمنهم من خوف عظيم؛ وهو خوف أصحاب الفيل أو خوف التخطُّف في بلدهم ومسايرهم"(8).

أمَّا قريش فقد قابلت تلك النعمة بالكفران قولًا وعملًا، فحولت بيت الله الحرام إلى منتدى للطاغوت، وأحاطت الكعبة بالأصنام، وعبدت من دون الله سبحانه أوثانًا، ولم تكتفِ بذلك بل حاربت عباد الله المؤمنين في البلد الأمين مكة، وسامت الصحابة سوء العذاب، وحولت بلد الأمن والأمان إلى بلد الأشباح والرعب للمؤمنين الصادقين، وأجابت الرسول الكريم بالشرك والكفر بنعمة الله تعالى، قال الله تعالى حكاية عنهم: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]، إنها لخدعة ومغالطة معكوسة، فهي تفصل بين الهدى والأمان مع أنهما متلازمان، فقد احتجت بأنها إن استجابت للرسول صلى الله عليه وسلم واتبعته على ما جاء به من الهدى حاربتها القبائل الأخرى وقاتلتها وأفقدتها هذا الأمن والأمان، لكن جاء الجواب على هذه الدعوى الباطلة سريعًا وقويًّا، فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:57]، أفمن أمَّنهم وهم عصاة يدعهم يُتخطفون وهم مطيعون تقاة؟! بل إنه سبحانه وتعالى أنعم عليهم مع الأمنِ بنعمة الرزق والازدهار الاقتصادي والنشاط التجاري حيث يُجبى إليهم ثمرات كل شيء ومن كل مكان رغمَ أنَّ بلادهم ليست بلادًا زراعيَّة.

دعواهم تلك بأن الإيمان يفقد الأمن ليست منطق قريش فقط؛ بل نجد هذه الأيام من يدعي بأن تطبيقنا للإسلام سيجر علينا الويلات ويفقدنا الأمن والأمان، وسيثير علينا الفتن والاضطرابات والحروب داخليًّا وخارجيًّا، إنه عين ما احتجت به قريش، فهل فقدت قريش أمنها؟ وهل أغارت عليها القبائل؟ ألبتة، بل الواقع كذَّب ذلك؛ فحين اتبعت قريش الهدى رجع إليها أمنها أقوى مما كان، ودخلت القبائل في دين الله أفواجًا، وبسطت سيطرتها على مساحات شاسعة في مشارق الأرض ومغاربها.

يقول الأمريكي برنارد لويس: "إن الدول الإسلامية قد تسقط أو تزول كدولة بالغزو العسكري، ولكن المجتمع يظل في حياته محكومًا بقوانينه الإسلامية في معاملاته وعلاقاته ربما عشرات السنين حتى تقوم الدولة من جديد، وهي تجربة مرت بها الدول الإسلامية التي خضعت للاستعمار عشرات السنين"(9).

لقد ربط القرآن الكريم الأمن بالاقتصاد لأنه لا اقتصاد بلا أمن ولا أمن بلا تقدم في الاقتصاد؛ لذلك يفر التجار الكبار بأموالهم والمقاولون بأعمالهم وخططهم من الأماكن المضطربة وبلدان الحروب ولا يستثمرون فيها، ومن هنا لما دعا نبي الله إبراهيم -عليه السلام- ربَّه عز وجل ربط أيضًا بين الأمن والاقتصاد، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126] وهذه سنة الله في الذين يكفرون بأنعم الله أن يسلبهم الأمن ويذيقهم لباس الجوع والخوف، قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].

وكفران النعمة أنواعه ثلاثة على رتب متفاوتة، قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّـهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]:

1- الكفر الصريح: وهو أخطرها، وهو عدم الإيمان بالله ورسله.

2- الفسوق: وهي أقل خطرًا من الأولى، فهي الخرق المستمر للطاعة ورفض الامتثال مطلقًا مع إيمان واعتراف بوجود الله تعالى، وإلى هذا النوع ينتمي إبليس.

3- العصيان: وهو ما لا يكون معه إصرار على رفض طاعة الله تعالى مطلقًا، ومنه قول الله تعالى عن آدم عليه السلام: { وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ} [طه:121-122]، فمعصية آدم كانت نتيجة خطأ وزللًا عارضًا، والعصيان إنما يكون ممن يطيع أحيانًا ويعصي أحيانًا، ومع هذا فإن المعصية ما دامت قائمةً فإنها تمنع بقدر وجودها حصول الأمن عند العاصي سواء كان فردًا أم جماعة أم أمة من الأمم.

المطلب الخامس: الأمن العسكري

يعتمد في الأساس على المعلومات وسـريتها ومـدى دقتهـا، لـذلك تسابقت الشعوب منذ القدم على استخدام كل الوسائل والتقنيات للحصول على تلك المعلومـات التي تحفظ أمنها العسكري، وتعد العقيدة العسكرية ركنًا مهمًّا يؤثر في قواعد الإعداد الحربي بنوعيه المعنوي والمادي، هذا ويمكن تقسيم الإعداد المادي العسكري إلى قسمين: 

أولًا: إعداد الجنود والضباط بأحدث الطرق والأساليب العالمية.

ثانيًا: توفير كل الإمكانيات العسكرية المتطورة المواكبة لتقنيات العـصر مـن الأسلحة الخفيفة إلى الثقيلة؛ لتمتلك الدولة قدرة ردع دولية قوية، قال الله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102].

لقد "شرع الإسلام نظامًا شاملًا للحرب يتسم بالرحمة والعدل، ويطبع العقيدة العسكرية التي تستمد منه بطابع سلمي غير عدواني"(10)، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّـهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ. وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:60-61].

إن المسلم يتحلى بعقيدة عسكرية ثابتة، "فقتاله من أجل الله وفي سبيله، لا يبتغي مغنمًا أو جاهًا أو مكانًا رفيعًا في الدولـة كما لا يقاتل من أجل قومية أو عصبية أو شهرة، فهذه غايات تحبط الأعمـال وتقـدح فـي العقيدة الصحيحة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه"(11).

ورد في القرآن الكريم لفظ (أمَنَة) في موضعين في حديثه عن غزوتين:

أ – في غزوة بدر، حين أنزل الله تعالى النعاس على الصحابة أثناء المعركة، قال سبحانه وتعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال:11].

فبدر كان يُعد موقعًا استراتيجيًّا للترتيبات العـسكرية والإجـراءات الأمنيـة المقدَّمة المتخذة قبل المعركة، فقد أرسل الله سبحانه وتعالى المطر ليلبد الأرض تحت أقـدام المسلمين؛ فساعد في تحرك القوات بشكل سريع حسب الخطة التي وضعها النبـي صـلى الله عليه وسلم.

ب- في غزوة أحد، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ} [آل عمران:154]. كان القرار بالخروج لملاقاة العدو خارج المدينة بالقرب من جبل أحد، وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم التدابير الأمنية العسكرية اللازمة بأعلى درجاتها لحماية كتائب الجيش ومواقع التمركز والانطلاق للعمليات العسكرية المخطط لهـا بحكمة ودقة بالغة، قال الله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121]، قال ابن كثير: "أي: تُبَيّن لهم منازلهم وتجعلهم مَيْمَنة ومَيْسَرة وَحَيْثُ أَمَرْتَهُمْ"(12).

كان مجلس الشورى الأعلى بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم يسمع من الرسول الأخبار التي ترد تباعـًا مـن جهـاز الاستخبارات بأن حشود الأحزاب بدأت في التجمع لاستئصال المسلمين، وأن الهجمة باتـت قريبة بقوة لا يستهان بها، فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بضرورة حفر خندق يحيط بشمال المدينـة لأنها منطقة مكشوفة، أمَّا الجهات الأخرى فهي محصنة بالجبال المحيطة بالمدينة، وقد صور الله تعالى ذلك كله على أنه من البلاء الشديد والجوع الديقوع(13) والحصار الضيق؛ فقال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10-11].

وتهتم العقيدة العسكرية الإسلامية بالمقاتل اهتمامًا كبيرًا لقدسية الروح المسلمة عند الله تعالى، قال سبحانه: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّـهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] "فالقائد المسلم الذي يفرط في تقديم الخسائر بالأرواح عبثًا ليس قائدًا ولا مـسلمًا، فقـد كان القادة المسلمون يحرصون أشد الحرص على أرواح المجاهدين، وغالبًا ما كانوا يستأثرون بالخطر ويؤثرون رجالهم بالأمن"(14)؛ لذلك شرع الباري سبحانه صلاة الخوف في وقت الحرب حتـى لا يؤخذ المسلمون على حين غِرَّة، يقول اللواء محفوظ: "وأخطر ما تتعرض له الأمم في هذا المجال هو المباغتة؛ لـذلك تسعى بأقصى جهدها لكي تمنع العدو من مفاجأتها، وذلك بأن تؤسس اسـتراتيجيتها العـسكرية على استخدام مختلف أجهزة الإنذار المبكر ووسائل الاستطلاع المتقدمة"(15).

ومن الأمن العسكري مشروعية الاتفاقات والمعاهدات بـين المسلمين وغيرهم؛ لذا أكدت الآيات القرآنية على الوفاء بالعهد وعدم الغدر في ذلك، فقال جل جلاله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّـهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7].

الخاتمة:

في ختام هذه الدراسة التي تناولت نعمة أمن الإنسان في ضوء القرآن يمكن استخلاص أهم النتائج:

1- جميع المخلوقات عامة والإنسان خاصة بحاجة ماسَّة إلى نعمة الأمن، فهي تفوق حاجته إلى طعامه وشرابه وملبسه ليعيش حياة سعيدة مستقرة مطمئنة.

2- كلمة الأمن لم ترد مقيدة بشيء لا بوصف ولا بإضافة لأنها لا تقبل التبعيض، وقد وردت بصيغٍ واشتقاقات عدةٍ في أربع وعشرين سورة، سبعة منها مدنية، وسبع عشرة سورة مكية، وهذا يؤكد حاجة العهد المكي إلى مزيد من الأمن المفقود يومئذ.

3- هناك علاقة وطيدة بين الإيمان والأمانة والأمن، فلا يتصور أن يكون هناك أمن بدون إيمان؛ فالإيمان هو التصديق الذي معه أمن واطمئنان واستقرار.

4- في القرآن الكريم نماذج وتوجيهات أمنية عدَّة كالأمن النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري وغيره.

5- جعل الله -عز وجل- نعمة الأمن من خصائص بيته الحرام الذي له من المنزلة ما ليس لغيره، فهو المطلب الأول في دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام.

6- ربط القرآن الكريم الأمن بالاقتصاد لأنه لا اقتصاد بلا أمن؛ لذلك يفر التجار الكبار بأموالهم ولا يستثمرونها في الأماكن المضطربة وبلدان الحروب.

7- يكون الأمن العسكري بتوفير كل الإمكانيات العسكرية المتطورة والمواكبة لتقنيات العـصر مـن الأسلحة الخفيفة إلى الثقيلة؛ لتمتلك الأمةُ قدرةَ ردعٍ دوليَّةً قويةً.

المصدر: مجلة مقاربات التي تصدر عن المجلس الإسلامي السوري – العدد الثامن.

الحلقة الثانية: هـــنا

---------

(1)- مسؤولية الأفراد والأجهزة الحكومية في تحقيق الأمن الاجتماعي، ورقة عمل لعبد الستار الهيتي، مقدمة لمؤتمر " الأمن الاجتماعي تحديات وتطلعات" المنعقد في البحرين لعام 2007م ، ص4.

(2)- لباب التأويل في معاني التنزيل، علاء الدين علي بن محمد، المعروف بالخازن، تصحيح: محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ: 3/359.

(3)- رواه البخاري في الأدب المفرد، برقم ( 300 ) 1/ 112، ورواه ابن حبان في صحيحه: 2 /446، والترمذي في سننه، كتاب الزهد، باب في التوكل على الله، برقم (2346)، وقال أبو عيسى: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مروان بن معاوية، ج4/ ص5، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب القناعة، برقم (4131).

(4)- الاقتصاد في الاعتقاد، أبو حامد الغزالي، طبعة القاهرة، بدون تاريخ: 2/5.

(5)- التخطيط الاستراتيجي لتحقيق الأمن الاقتصادي، سعيد علي حسن، ورقة بحثية مقدمة لمؤتمر "تقنية المعلومات والأمن الوطني"، الرياض، 2007م: 4.

(6)- وسائل تحقيق الأمن الاقتصادي في الإسلام، الدكتور محمد منصوري، بحث منشور في مجلة الإحياء الجزائرية، العدد 20، لعام 2017م: 451.

(7)- صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، دار الصابوني– القاهرة، ط2، 1417هـ - 1997م: 2/135.

(8)- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري، دار الكتاب العربي – بيروت، ط3، 1407 هـ: 4/803.

(9)- الأمن في حياة الناس وأهميته في الإسلام، عبد الله بن عبد المحسن التركي، د.ت: 3.

(10)- العسكرية الإسلامية وقادتها العظام، جمال يوسف الخلفات وآخَر، مكتبة المنار، الزرقاء، الأردن، ط2، 1403هـ ـ 1983م: 87.

(11)- الأمن العسكري في السنة النبوية: دراسة موضوعية تحليلية، نهاد يوسف الثلاثيني، الجامعة الإسلامية/غزة، 1428هـ 2007م، 36.

(12)- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 2/110.

(13)- الديقوع: الشديد، من الجوع المدقع، قال ابن منظور: "وجُوع دَيْقُوعٌ: شَدِيدٌ". [لسان العرب:8/90].

(4 )- العسكرية العربية الإسلامية، محمود شيت خطاب، مطابع الدوحـة الحديثـة، الطبعة الأولى، 1403هـ:57.

(5 )- المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية، محمد جمال محفـوظ، دار الاعتصام، ط2، 1976م: 170.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين