حدث في الرابع عشر من جمادى الأولى: وفاة الأديب الفقيه أبن أبي الصقر الواسطي

في الرابع عشر من جمادى الأولى من عام 498 توفي في واسط، عن 89 عاماً، الفقيه الأديب ابن أبي الصقر الواسطي، أبو الحسن محمد بن علي بن عمر، الفقيه الشافعي الذي غلب عليه الأدب والشعر واشتُهِر به.

ولد ابن أبي الصقر سنة 409 في واسط، وهي مدينة أنشأها الحجاج بين البصرة والكوفة، وكان يقول: أنا من ولد الوزير أبي الصقر إسماعيل بن بلبل. والوزير المذكور من كبار وزراء المعتمد وزِّرَ له مرات، ثم نكبه خليفته المعتضد وقتله في سنة 278.

ابتدأ ابن أبي الصقر حياته بطلب العلم في واسط فسمع الحديث عن عبيد الله بن هارون القطان الواسطي، المتوفى سنة 424، وأخذ الأدب عن أبي غالب ابن بشران محمد بن أحمد الواسطي المعروف كذلك بابن الخالة، والمولود سنة 380 والمتوفى سنة 462، وكان في زمانه أحد الأئمة المعروفين والعلماء المشهورين، صاحب نحو ولغة وحديث وأخبار ودين وصلاح، قرن بين الرواية والدراية والفهم وشدة العناية، وإليه كانت الرحلة في زمانه، وكان شاعراً رقيقاً.

وأخذ ابن أبي الصقر النحو في البصرة عن أبي الحسن محمد بن محمد بن عيسى الخيشي البصري النحوي، المتوفى سنة 438، وكان من أئمة النحاة المشهورين بالنبل والفضل، ثم رحل إلى بغداد بعد سنة 459 فدرس في المدرسة النظامية الفقه الشافعي على الإمام الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، إبراهيم بن علي المولود سنة 393 والمتوفى سنة 476، وصاحب كتاب طبقات الفقهاء، وسمع ابن أبي الصقر من الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، المولود سنة 392 والمتوفى سنة 463، وصاحب كتاب تاريخ بغداد. وروى عنه جماعة من محدثي عصره.

وفي سنة 469 حدثت فتنة في بغداد بين الأشاعرة والحنابلة، فقد جاء إلى بغداد من نيسابور في طريقه إلى الحج أبو نصر بن أبي القاسم القُشيْريّ، عبد الرحيم بن عبد الكريم المولود نحو سنة 430 والمتوفى سنة 514، وجلس يعِظ الناس في المدرسة النظامية وفي غيرها، وساقه اندفاع الشباب إلى أن أخذ يذم الحنابلة، وينسبهم إلى التجسيم، وكان رأس الحنابلة ببغداد الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي العباسي، عبد الخالق بن عيسى، المولود سنة 411 والمتوفى سنة 470، فعزمت مجموعة من الأشاعرة أن تهجم على الشريف أبي جعفر في مسجده، فرتب الشريف جماعة لردهم، فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجُرّ، فوقعت الفتنة، وقتل من أولئك رجل من العامة، وجرح آخرون.

وأغلق أتباع القشيري أبواب سوق المدرسة النظامية، وهتفوا باسم الخليفة الفاطمي في مصر، وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي المقتدي لكونه حنبلياً والشريف أبي جعفر ابن عمه.

وكاتب فقهاءُ الشافعية السلطان السلجوقي نظام الملك بما جرى، فورد كتابه بالامتعاض من ذلك، والغَضَب لتسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى، وكان الخليفة يخاف من السلطان ووزيره نظام الملك ويداريهما.

وكان ابن أبي الصقر شديد التعصب للمذهب الشافعي، وله قصائد تدعى الشافعيات، وهو كما رأينا من تلاميذ الإمام الشيرازي الذي أهين في هذه الواقعة، فكتب ابن أبي الصقر إلى نظام الملك قصيدة يستثيره ويستنصره إزاء هذه الأحداث، وأشار فيها إلى أن مؤيد الملك ابن الوزير يدرس في المدرسة النظامية:

يا نظام المُلك قد خلَّ ببغداد النظامُ=وابنك القاطن فيها مستهانٌ مستضام

وبها أودى له قتلى غلام فغلام=والذي منهم تبقّى سالماً، فيه سهام

يا قوام الدين لم يبق ببغداد قوامُ=عظُم الخَطْب فللحرب اتصالٌ ودوام

فمتى لم يحسم الداءَ بأيديك الحِسام=ويكفّ القومَ في بغداد قتلٌ وانتقام

فعلى مدرسة فيها ومنْ فيها السلام=واعتصام بحريمٍ لك من بعْد حرام

وحل الخليفة القضية بأن دعا إلى مجلس حضره كبار الطرفين، ونتج في آخره أن فُرِضَ على الشريف أبي جعفر ما يشبه الإقامة الجبرية في قصر الخليفة، واستدعى الوزير أبا نصر القشيري من بغداد، وعزل وزيرُ الخليفة فخر الدولة بن جهير، لاتهامه بالتمكين للحنابلة وممالئتهم.

وقصد ابن أبي الصقر مرة الوزير نظام الملك، فمنعه البواب، فكتب إليه:

لِلهِ دَرُّك إِنَّ دارَك جنةٌ ... لكنَّ خلفَ البابِ منها مالكا

هذا، نظامُ الملك، ضدُّ المقتضى ... إذْ كان يُرْوى عن جهنمَ ذالِكا

أنعِمْ بتيسير الحجاب، فإِنني ... لاقيتُ أنواعَ النَّكالِ هُنالِكا

مالي أُصادفُ بابَ دارِك جفوةً ... وأنا غنيٌّ، راغبٌ عن مالكا؟

فأذن له نظام الملك، وقال: إذا كنت غنياً عن مالنا، فانكفِئ! فقال: كلانا شافعي المذهب، وقد جئتك لمذهبك لا لذهبك.

ومن أمراء منطقة بادية العراق صدقة بن منصور بن دبيس المزيدي الأسدي، الملقب سيف الدولة، والمولود سنة 442 والمتوفى سنة 501، ولي إمرة بني مزيد بعد وفاة أبيه سنة 479 فبنى الحلة بين الكوفة وبغداد، وأسكن بها أهله وعساكره سنة 495، وكان شجاعا بطلا، حازما طماحا إلى التغلب والسيادة، موصوفا بمكارم الأخلاق، ثارث في أيامه الفتن بين أبناء ملِكشاه السلجوقي، فاستغل الفرصة واحتل الكوفة واستولى على هيت وواسط ثم البصرة، وانتظم له ملك بادية العراق، إلى أن زحف عليه السلطان محمد بن بركيارق ابن ملكشاه، بجيش فيه خمسون ألف مقاتل، فنشبت بينهما حرب طاحنة انتهت بمقتل صدقة عند النعمانية.

ولما دخل صدقة بن منصور واسطاً في سنة 496، وظفر بأعدائه عفا عنهم، فدخل إليه ابن أبي الصقر وسنه 87 سنة، وأنشده:

ظفَّرَ اللهُ بالعُداة الأميرا ... مثلما ظفَّرَ البشيرَ النَّذيرا

يومَ بَدْرٍ، فإِنّه كان يوماً ... قَمْطَريراً على عِداه عسيرا

أيها المنعمُ الذي واسط تَذكرُ إِنعامَه عليه الكثيرا

حين وافيتَها بفِتيانِ صِدقٍ ... لا يولُّونَ في اللقاء الظُّهورا

يا بني مَزْيَدٍ، لأيامنا دُمتمْ شموساً، ولليالي بدورا

يا بني مزيد غُيوثاً بقيتُمْ ... ولُيوثَ الثَّرَى أميراً أميرا

قلنا إن الأدب والشعر غلبا على ابن أبي الصقر واشتهر بهما، وكان كاملا في البلاغة والفضل وحسن الخط وجودة الشعر، وكان في بداية أمره ينظم الأشعار في الغزل والشوق، ويتغنى بها المغنون، ومن ذلك قوله:

وحُرمةِ الوُدِّ مالي عنكمُ عِوَضُ ... لأنَّني ليس لي في غيركم غَرضُ

أشتاقُكم وبوُدّي أن يواصلَني ... لكم خَيالٌ، ولكن لست أغتمضُ

وقد شرَطْتُ على قوم صحِبتُهمُ ... بأنَّ قلبي لكم من دونهم، ورَضُوا

ومِن حديثي بكم، قالوا: به مرض، ... فقلت: لا زال عنّي ذلك المرضُ

وله في تفاحة حمراء:

أَهدى لقلبي قمَرٌ، ... طالَ إليه قَرَمي

تفّاحةً، أُحيي بها ... قلبي وكفّي وفمي

فلستُ أدري، إذْ بدت ... ولونُها كالعَنْدَمِ

مِن نَفَسي تورَّدت؟ ... أم حَملَتْ وِزْرَ دمي؟

وكان ابن أبي الصقر ماهراً في الألغاز الشعرية، وهو فن ازدهر في تلك الفترة وما بعدها إلى آخر الفترة المملوكية، قال ابن أخته: وجدت بخط خالي من شعره لغزاً، لم يفسره، فكتبت بالبصرة سنة 539 إلى الأمير حسام الدولة أبي الغيث، محمد بن المغيث، فكتب جوابها: فمن ذلك قول ابن أبي الصقر:

وأيُ شيءٍ طولُه عَرضُه ... أضحى له عندَك مقدارُ؟

دلَّ عليه حسنُ طبعٍ له ... ففيه للعالم أوطارُ

تُمسكه الكفّ، ولا تشتكي ... منه احتراقاً، وبه نارُ

وجواب الأمير أبي الغيث البصري، رحمه الله تعالى:

يا مَنْ أتانا مُلغِزاً فكرَهُ ... لِلُّغْز يستفتي ويمتارُ

أَلْغَزْتَ في الّدينار، فامتَرْ به ... إِنْ كنتَ مَنْ للعلم يمتار

وقول ابن أبي الصقر عفا الله عنه:

وما شيءٌ له رأسٌ وسنُّ ... وفي أسنانه قَلَحٌ ونَتْنُ؟

وقد كُسِيَ البياضَ، وليس فيما ... يُلابسُهَ دِبيقيٌّ وقُطنُ

يُعَرِّيهِ ويَنْظِمهُ لأجلِ الثياب، فمنه تَمَّ لهنَّ حسنُ

يُقَلقَلُ منه سنٌّ بعدَ سنٍّ، ... ولا يبكي لذاك، ولا يَئِنُّ

وما هو عنبرٌ، وبه دَعاهُ ... ذوو فهمٍ كما لَهُمُ يَعِنُّ؟

وجواب أبي الغيث:

ألا يا أيُّها الحَبْرُ المُوافِي ... بألغازِ لها في الحسن فَنُّ

ظننتَ بأنَّ خالَك ليس يُلْفَى ... له نِدٌّ، وليس كما يُظَنُّ

له زمنٌ مضى، ولنا زمانٌ ... وكلٌّ في صِناعته مُرِنٌّ

برأس الثُّوم والأسنان منه ... عَنَيْتَ، فخُذْ وقلبُك مطمئنُّ

فهاتِ اللُغْزَ ممتحناً، فقلبي ... إلى ما صاغَه منه يَحِنُّ

كان الكبريت يستعمل دواءً للأمراض الجلدية، ومن شعر ابن أبي الصقر ما كتبه إلى قادم من بغداد يسأله أن يحضر معه شيئاً من الكبريت لأنه في البيت أساسي مثل الفتيت، وهو الخبز الذي يفت ثم يشرب بالحليب والسكر:

من هدايا بغدادَ في ألف حِلٍّ ... أنت، إلا من باقَتَيْ كِبْريتِ

إنَّه عندَ ربَّة البيتِ، ممّا ... ليس منه بُدٌّ، كشُرب الفَتيتِ

ومن قصيدة له في مدح الوزير عميد الدولة، ابن جهير، يطالب برسمه على الديوان، ويعرّض بأحد موظفيه ويدعى ابن يعيش:

يا مَن نلوذُ من الزَّمان بظلّه ... أبداً، ونطرُدُ باسمه إِبليسا

رسمي على الدِّيوان حُوشِيَ قدرُه ... أن يُسْتَقَلَّ وأن يكون خسيسا

وعليَّ آخُذ شَطره من واسط ... دَيناً، أُؤَدِّي عينه محروسا

وإذا شكا الدَّيْنَ الأديبُ، فإِنّه ... لم يَشْكُ إلا حظَّه المنحوسا

والكلُّ في بغدادَ آكِلُهُ، وكم ... فرَّغت في بغدادَ كيساً كيسا

ولَكم رفَعتُ لأجله من قِصَّة، ... أنفَدْتُ فيها كاغداً ونفوسا

وبه توقّعُ لي، وكم مستخدماً ... يَدَهُ لَثَمْتُ، وحاجباً، ورئيسا

قد صار إطلاقاً على ابن يعيش، لا ... ذاقَ الرَّدَى حتّى يقرَّ تعيسا

فكأنَّما ابنُ يعيشَ صار لأِكله ... مالَ الخليفة مستبيحاً سُوسا

وكأنّه، كَدّاً، حمارُ عُزَيْرَ لا، ... وتلقُّفاً للمال، حَيَّةُ موسى

فأنا على وَجَل، لأجل إِحالتي، ... لو أَنّها كانت عليه فلوسا

صَيِّرْ لك العمّالَ أقلاماً، إذا استخدمتَها، طأطاتَ منها الرُّوسا

ولابن أبي الصقر أبيات في الزهد والتوكل، منها: 

كلُّ رزقٍ ترجوه من مخلوق ... يعتريه ضربٌ من التعويق

وأنا قائل - وأستغفر الله - مقالَ المجاز لا التحقيق

لست أرضى من فعل إبليس شيئاً ... غير ترك السجود للمخلوق

وله وكأنه يبني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصبح منكم آمنا في سربه، مُعافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا:

إذا ما مَرَّ يومٌ بعد يومٍ، ... ووجهي ماؤه فيه مصونُ

وقُوتي قُرْصَتانِ إلى ثلاث ... بها مِلْحٌ يكونُ ولا يكونُ

وسِرْبِي آمنِ، وأنا مُعافىً، ... وليس عليَّ في الدنيا ديونُ

فما أَشكو الزمان، فإنْ شكوتُ الزمانَ، فإنه مني جُنونُ

ومن شعره:

مَن عارضَ الله في مشيئته ... فما لديه من بطشه خبرُ

لا يقدر الخلق باجتهادهم ... إلا على ما جرى به القدر

وقال فيمن لا يُسخِّر جاهَه لنفع إخوانه داعياً عليه بأن يزول جاهه ومنصبه:

من قال لي جاهٌ ولي حشمة ... ولي قبول عند مولانا

ولم يعد ذاك بنفع على ... صديقه؛ لا كان من كانا

ولابن أبي الصقر في حسن الصبر وتغير الأحوال:

عليك بحسن الصبرِ في كل ما يَطْرا ... وقِفْ وِقفةَ المظلومِ، وانتظرِ الدهرا

وإن لم تنَلْ، في هذه الليلة، المُنَى ... سريعاً، فبِتْها، وانتظرْ ليلة أخرى

فلو أنَّ في الناس امرَأَيْنِ، تمنيا ... جميعاً مُنىً، لم تَعْدُ مَنْ أحسن الصبرا

وتوفي أحد أحبابه من الشباب الأصغر منه سناً فرثاه بمرثية منها:

كفانيَ إنذاراً وفاةُ قرِيني ... فكيف الذي في السِّنّ أصبح دُوني؟

فكيف تراني أصحَب الدهرَ آمناً ... إذا هو أضحى فيك غيرَ أمينِ؟

وكنت أُناجي اللهَ، جَلَّ جلالُه، ... بأَنْ فيك مكروهَ القضاءِ يَقيني

فبلبلتِ الأقدار قلبي، وولَّدت ... وساوسَ، أخشى أن تبلبلَ دِيني

وإنَّك لم تبلُغْ من العمر غايةً ... تكون بها في النّائبات مُعيني

فليت المَنايا نفَّستْ من خِناقها ... إلى أَمَد، أرجوه فيك، وحِينِ

لئن صان منك الدَّمع حالاً تغيَّرَتْ ... ففائضُ دمعي فيك غير مصونِ

ويأمُرني بالصَّبر عنك ذوو الحِجا، ... فقلت لهم: من ذا المقالِ دَعُوني

فلي لَهْفُ مغصوبٍ، وحَيرةُ مُكْرَهٍ ... وأنفاسُ مكروب، ووَجْدُ حزينِ

فلا قلت يوماً للكآبة: أَقْصِري، ... ولا لجفوني: دمعَ عينِك صُوني

وأستذنبُ الأيّامُ فيك جهالةً، ... وكم أهلكتْ من أُمَّة وقرينِ

هو الموتُ، لم يَحْفِلْ بصاحبِ معقلٍ ... ولم يخشَ من حِصن عليه حصينِ

ولا فاتَه سارٍ، يواصلُ سيرَه ... على ظهر سُرْحُوبٍ ومَتْنِ أَمُونِ

وإِن تَكُ هذي الأرضُ غيرَكَ تبتغي ... كريماً، فما ترضَى إذَنْ بدفينِ

عليك سلامٌ، كم إليك جوارحٌ ... تَحِنُّ، ولكن ما لها كحنيني

ثم شُغِفَ ابن أبي الصقر بالتأمل في مراحل العمر ووداع الكهولة واستقبال الشيخوخة، قال: كنت إذا ترقيت إلى سن، أعمل أبياتاً. فلما بلغت الستين، قلت:

بعدَ ستّينَ وسِتٍّ ... كلَّما زِدتُ، نَقَصْتُ

أيُّ فخرٍ في حياة ... بَعناءِ؟ لَيْتَ مِتُّ

ولما بلغ السبعين، قال:

إِنَّ ابنَ سبعينَ عاماً ... ما بينَ سَبْعينِ يمشي

للصُّبح منه غَداء ... وللعَشاء تَعَشِّي

ولما بلغ الثمانين، قال:

وقائلةٍ، لما عَمَرْتُ وصارَ لي ... ثمانونَ حَوْلاً: عِشْ كذا وابْقَ واسْلَمِ

ودُمْ، وانتشقْ رَوْحَ الحياةِ، فإِنه ... لَأطيبُ من بيتٍ بصَعْدَةَ مظلِمِ

فما لم تكن كَلاًّ على ابْنٍ وغيرِه ... فلا تَكُ في الدنيا كثيرَ التَّبَرُّمِ

فقلتُ لها: عذري لديك مُمَهَّدٌ ... ببيت زهيرٍ، فاعلَمي وتعلَّمي:

سئِمتُ تكاليفَ الحياة، ومَنْ يَعِشْ ... ثمانينَ حوْلاً، لا أبالَكَ، يَسْأَمِ

وقد ذكر المؤرخون أن لابن أبي الصقر ديواناً يبلغ مجلداً لم يصلنا منه سوى أشعار متناثرة في كتب الأدب، جمعتها الباحثة العراقية الدكتورة بلقيس خلف رويح، من كلية الآداب في الجامعة المستنصرية ببغداد، ومعظم أشعاره في وصف الشيخوخة والشكوى من الضعف الذي يصحبها، ومنها:

يا رب لا تحيني إلى زمن ... أكون فيه كَلّا على أحدِ

خذ بيدي قبل أن أقول لمن ... ألقاه عند القيام: خذ بيدي

ولما طعن في السن وضعف عن المشي صار يتوكأ على عصا، فقال في ذلك:

كل أمري إذا تفكرتَ فيه ... وتأملتَه رأيتَ ظريفا

كنت أمشي على اثنتين قوياً ... صرتُ أمشي على ثلاث ضعيفا!

ولكنه كره العكاز لما صاحبه من هرم ووهن، على ما فيها من فوائد لحاملها، فقال:

لو حُوِّلَتْ هذي عصايَ، التي ... أحمِلُها في الكفّ، ثُعبانا

تَلَقَّفُ الأَعداءَ، مثلَ الذي ... في مثلها من قبلُ قد كانا

كرِهتُ حَمْلِيها، ولو أنني ... صرتُ بها موسى بن عِمْرانا

وقال ابن أبي الصقر يعتذر عن ترك القيام لأصدقائه:

علةٌ سُميت ثمانين عاما ... منعتني للأصدقاء القياما

فإذا عُمِّروا تمهدَ عذري ... عندهم بالذي ذَكرتُ وقاما

وله في كبره أيضا:

ولما إلى عشر تسعين صرتُ ... وما لي إليها أبٌ قبلُ صارا

تيقنت أنيَّ مستبدِلٌ ... بداري دارا وبالجار جارا

فتُبتُ إلى الله مما مضى ... ولن يُدخِلَ الله من تاب نارا

وحضر ابن أبي الصقر عزاء طفل صغير، وعراه ارتعاش من كبر السن، فتغامز عليه الحاضرون يشيرون إلى موت الطفل وطول حياة ابن أبي الصقر إلى هذه السن، ففطن لهم وقال:

إذا دخل الشيخ بين الشباب ... عزاءً وقد مات طفل صغير

رأيتَ اعتراضا على الله إذ ... تَوفى الصغيرَ وعاش الكبير

فقل لابن شهر وقل لابن ألف ... وما بين ذلك: هذا المصير

وله أبيات لطيفة يحاكي فيها تسمية الأطباء للأمراض، ويصف مرضه وعلاجه:

مرض، صيّر اسمه الكِبَراثا ... قد أعاد الرِّجلينِ منّي ثلاثا

وَهْوَ داء، له دواءٌ: يُسَمَّى ... في الكَنانيش كلِّها القَبراثا

وبهذا الدواء كم قد شفى اللهُ مريضاً منه إليه استغاثا

وأنشد ابن أبي الصقر يشكو من تدهور سمعه وبصره فأصبحت حياته صعبة متعبة:

بعدَ ثمان وثمانينا ... في مسكني قد صرت مسكينا

لا أسمَعُ الصَّوتَ، ولا أُثْبِت الشخْصَ، فلا بُلّغِتُ تسعينا

ويرحَمُ اللهُ تعالى امْرَءاً ... يسمَعُ قولي، قالَ: آمينا

وقد استجيب دعاء ابن أبي الصقر، حيث توفي قبل أن يتم التسعين، رحمه الله رحمة واسعة.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين