أمن الإنسان في ضوء القرآن (2)

الأمن النفسي والسياسي 

المبحث الثاني: أقسام الأمن في القرآن الكريم

المطلب الأول: الأمن النفسي

القرآن الكريم زاخر بالنماذج والتوجيهات الأمنية، ومنها الأمن النفسي، إن الإنسان يعاني في هذا العصر أمراضًا نفسية خطيرة لم تُعرف فيما سلف من الأزمان كمًّا ولا نوعًا، "وعجزت المجتمعات المعاصرة عن إيجاد مجتمع آمن؛ لأن جميع الدراسات الغربية عن علم النفس الإنسانية قامت بمعزل عن الباري جل جلاله وبعيدًا عن الدين، فانحدرت الفضائل، وضاعت القيم والخلاق"(1).

مما لا شك فيه أن للقرآن الكريم أثرًا عظيمًا في تحقيق الأمن النفسي والطمأنينة القلبية والسكينة؛ فهي نور وروح من الله يسكن إليه الخائف الفزِع، ويطمئن عنده القلِق المضطرِّب، وقد بين القرآن الكريم ما يحدثه الإيمان من أمن وطمأنينة في نفس المؤمن بقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فهو يحقق للمؤمن سكينة النفس وأمنها وطمأنينتها، لأن إيمانه الصادق بالله يمده بالأمل والرجاء في عون الله ورعايته وحمايته، قال الألوسي: "والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان وتجدده حسب تجدد المنزل من الذكر: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ وحده تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ لله دون غيره من الأمور التي تميل إليها النفوس من الدنيا"(2).

وقد بدأت تظهر حديثًا اتجاهات بعض علماء النفس في العصر الحديث تنادي بأهمية الدين في علاج الأمراض النفسية، وترى أن في الإيمان بالله قوة خارقة تمد الإنسان بطاقة روحية تعينه على تحمل مشاق الحياة، وتجنبه القلق الذي يُصاب به كثير من الناس الذين يعيشون في هذا العصر الذي تغلب عليه الحياة المادية، ومن أولئك العلماء وليم جيمس عالم النفس الأمريكي، يقول: إن أعظم علاج للقلق هو الإيمان"(3).

ونلمس مثالًا للأمن النفسي في مطلع سورة يوسف -عليه السلام- من خلال نصيحة نبي الله يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام، قال الله تعالى حكاية عن يعقوب: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف:5] هذا التوجيه والنصيحة ودعوة الأبِ ابنَه إلى كتم الرؤيا عن إخوته تربيةٌ أمنية خوفًا من زيادة الحسد والكراهية وما يترتب عليهما من غدر ومكر، "فلَا يُشْكِلُ كَيْفَ حَذَّرَ يَعْقُوبُ يُوسُفَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- مِنْ كَيْدِ إِخْوَتِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} لِيَعْلَمَ أَنَّهُ مَا حَذَّرَهُ إِلَّا مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ إِخْوَتِهِ"(4).

وكذلك نلاحظ الأمن النفسي في قول الله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّـهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67] قال القاسمي: "أي لئلا يستلفت دخولهم من باب واحد أنظار من يقف عليه من الجند ومن يعسُّ للحاكم؛ فيريب بهم لأن دخول قوم على شكل واحد وزيٍّ متحد على بلدٍ هم غرباءُ عنه مما يلفت نظر كل راصد، وكانت المدن وقتئذ مبوَّبة لا ينفذ إليها إلا من أبوابها، وعلى كل باب حرسه، وليس دخول الفرد كدخول الجمع في التنبه وإِتْبَاع البصر"(5). لقد وجه نبي الله يعقوب -عليه السلام- أبناءه توجيهًا أمنيًّا تُؤخذ منه العبرة والعظة، وذلك من خلال أخذ كل وسائل الحيطة والحذر في مثل هذه الأحوال.

أما الأمن النفسي يوم القيامة فإن المؤمن في الجنة سليم الصدر من كل ما يشوب أمنه وطمأنينته واستقراره النفسي، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر:45-46].

المطلب الثاني: الأمن السياسي

هو تحرر المواطنين جميعًا من الخوف والحاجة، وضمان تأمين الحماية من تهديد القمع السياسي، وحمايتهم من الصراعات والحروب والهجرة، فلا استثناء أو تمييز لأنه حقٌّ من الحقوق المكتسبة للإنسان، وقيل: هو احترام حقّ الإنسان في التعبير عن رأيه وحمايته من القمع الذي قد يواجهه.

ويظهر الأمن السياسي في سياق قصة أصحاب الكهف، قال الله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] يبين القرآن الكريم حالة فتية استيقظوا من نومهم يوصي بعضهم بعضًا أن يكونوا على حذر لئلا يشعر بهم أحد، ويظهر الأمن السياسي من خلال قولهم {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه، {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} أي: ولا يفعلن ما يؤدي من غير قصد منه إلى العلم بنا والشعور بوجودنا؛ فإن أهل ملتهم إن عرفوا أمرهم قتلوهم بالحجارة أو أعادوهم إلى ملتهم، "وهنا يتبين مفهوم الأمن السياسي، وهو وجود تلك القوة الظالمة التي تتربص بالفتية للقتل بوصفهم خارجين على الدين لأنهم يعبدون إلهًا واحدًا في المدينة المشركة، أو يفتنونهم عن عقيدتهم بالتعذيب؛ لذلك يوصون الرسول أن يكون حذرًا لبقًا"(6) قال الزمخشري في معنى {وَلْيَتَلَطَّفْ}: "وليتكلف اللطف والنِّيقة(7) فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن أو في أمر التخفي حتى لا يعرف"(8).

ونلاحظ هذا الأمن السياسي أيضًا في قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21] يترقب أي: يلتفت يمينًا وشمالًا، متخذًا في ذلك كل قواعد الحيطة والحذر، قال الفخر الرازي: "أَيْ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَنْتَظِرُ هَلْ يَلْحَقُهُ طَلَبٌ فَيُؤْخَذُ، ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَى اللَّه تَعَالَى لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ سِوَاهُ فَقَالَ: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُ لِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَنْبًا، وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ الظَّالِمَ لَهُمْ وَمَا كَانُوا ظَالِمِينَ لَهُ بِسَبَبِ طَلَبِهِمْ إِيَّاهُ ليقتلوه قصاصًا"(9).

ومنه قول الله سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:20-21] قال ابن كثير: "وَصَفَهُ بالرّجُولية لِأَنَّهُ خَالَفَ الطَّرِيقَ، فَسَلَكَ طَرِيقًا أَقْرَبَ مِنْ طَرِيقِ الَّذِينَ بُعِثوا وَرَاءَهُ، فَسَبَقَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى {إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أَيْ: يَتَشَاوَرُونَ فِيكَ {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} أَيْ: مِنَ الْبَلَدِ {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}"(10). والتأكيد بـ (إنَّ واللام) ليناسبَ مقتضى الحال فيجدَ موسى مخرجًا، فالملك وبطانته ورجال دولته يدبرون لك المكائد وينصبون لك الحبائل، فاهرب قبل أن يلقوا القبض عليك وينفذوا ما دبَّروه ويقتلوك -إنه الأمن السياسي- فخرج موسى من مدينة فرعون خائفًا يترقب لحوق الطالبين، ويتلفت يمينًا ويسارًا وينظر أيتبعه أحد، متخذًا جميع قواعد الحيطة والحذر.

إن مفهوم الأمن عمومًا والسياسي خاصةً يُدلِّل على ضرورة البحث والتحري الدائم لأسباب الاستقرار والتماسك المجتمعي والتحرر من الخوف، وهو ما تم تغييبه في سورية إبان حكم حافظ الأسد وتحول إلى مفاهيم أمنية خاصة بالسلطة الحاكمة، فعملت الاستراتيجية الأمنية على نشر فلسفة ابتعاد المجتمع عن السياسة قولًا وممارسة، وأغلقت هذا الباب بحيث أضحى حَكرًا على العائلة الحاكمة وأعوانها، واعتمدت السلطة في سبيل إحكام سيطرتها بواسطة الأجهزة الأمنية على أسلوب توليد العداء وخلق الحالة التنافسية بين جميع الأجهزة الأمنية المختلفة والقائمين عليها، فارتبط مؤشر الأداء الجيد بمعياري الولاء والطاعة المطلقة، وأُطلِقت أيدي الأمن في جميع مفاصل الدولة، فنتج عن ذلك التدخل في أبسط مناحي الحياة ابتداء من رخصة بائع متجول إلى عضوية مجلس الشعب وترفيع ضباط الجيش، وهو ما شكَّل مصدر ثراء فاحش لهم، وتنامت ثقافة الرعب من الأجهزة الأمنية في المجتمع عبر تكريس تركيبة طائفية متناقضة داخل دائرة القرار في كل فرع مع تعميق ثقافة "التقارير" في المجتمع. 

المصدر: مجلة مقاربات التي تصدر عن المجلس الإسلامي السوري – العدد الثامن.

الحلقة الأولى: هنا

(1)- الأمن النفسي في العلاقة مع الله كما يصورها القرآن الكريم، انشراح أحمد توفيق اليبرودي، بحث منشور في المجلة العربية للدراسات الأمنية، المجلد 32، العدد 67، الرياض، 1438 هـ 2016م: 165.

(2)- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، تحقيق: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ: 7/141-142.

(3)- الأمن النفسي في العلاقة مع الله كما يصورها القرآن الكريم: 166.

(4)- التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر – تونس، 1984 هـ: 12/214.

(5)- محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1418 هـ، 6/197.

(6)- مشاهد الأمن كما تصورها القصة القرآنية، الدكتورة يسرى أحمد اليبرودي، بحث منشور في المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، مج (12)، ع (4)، 1438ه‍/2016م: 376.

(7)- النيقة: مشتقة من الأناقة، جاء في لسان العرب: " قَالَ اللَّيْثُ: النِّيقةُ مِنَ التَّنَوُّق، تَنَوَّق فُلَانٌ فِي مَنْطِقِهِ وَمَلْبَسِهِ وأُموره إِذَا تجوَّد وَبَالَغَ، وتَنَيَّق لُغَةٌ". [لسان العرب لابن منظور: 10/363].

(8)- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري: 2/710.

(9)- مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثالثة، 1420 هـ: 24/587.

(10)- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة، ط2، 1420هـ - 1999 م: 6/226.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين