خطر الترف على الفرد والأمة

هذه خطبة من ضمن الخطب القديمة التي كنت أخطبها في مسجد الرضا بجدة ، أرجو الله بها القبول وحسن الانتفاع ، وجزى الله خيراً من أعان على إخراجها وصفها وتصصحيحها.

تعيش الإنسانية اليوم عصر الشهوات واتساع دائرة الترف في ساحة الحياة. حيث يتهالك إنسان هذا العصر على جمع المال، ويلهث خلف شهواته ونزواته، ويُسرف في تعاطي الملذَّات، والرَّغبات من طعام وشراب وثياب وجنس ونوم وراحة بدن... فيسوقه ذلك إلى الطغيان الذي يحمل في طيَّاته التدمير لنفسه ومجتمعه وأمته. قال الله تعالى:[كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى] {العلق:6}.

ومن هنا أعلن القرآن حملة شعواء على الترف والمترفين، والترف هو الإغراق في التنعم، والتوسع في أسباب الرفاهية، والغرور بالنعمة والانشغال بها.

والترف هو أول سمات أهل النار الذين استحقوا سخط الله وعذابه الأليم [وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ(41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ(42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ(43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ(44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ(45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الحِنْثِ العَظِيمِ(46) ]. {الواقعة}. .

فالمترفون في نظر القرآن هم أعداء كل رسالة، وخصوم كل إصلاح منذ عهد نوح عليه السلام ـ شيخ المرسلين ـ نجد الطبقة المستكبرة في وجه دعوته، مستصغرة شأن الذين اتبعوه من الفقراء الذين لا مال لهم ولا جاه، وتبلغ بهم الرفاهية أن يطلبوا إليه طرد هؤلاء الأراذل، في رأيهم ليسوغ لهم أن يتبعوه:[فَقَالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ] {هود:27}.

واستمر موقف هذه الطبقة بعد قوم نوح الذين أهلكهم الله [ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ(31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ(32) وَقَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ(33) ]. {المؤمنون}..

وهكذا مضى المترفون على هذه السُّنن إلى أن بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا أول من كذَّب وعارض، فوجَّه إليهم القرآن وعيده في عدد من السور المكية في مثل قوله تعالى:[وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا] {المزمل:11}.[ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] {الحجر:3}.

إنهم يريدون أن يظلوا غارقين في النعمة والمتاع الأدنى، يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، لاهية قلوبهم، مشغولة عقولهم، يعادون دعاة الخير والحق والهداية. 

كما قال تعالى مصوراً موقف المترفين مع الرسالات الإلهية بصفة عامة:[وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ] {سبأ:34}.

وسبب هذه المعاداة يرجع إلى فساد تصوُّر المترفين حيث يظنون أن دعاة الله إنما يريدون أن يستلبوهم ما هم فيه من نعم، ويجرِّدوهم من الشهوات والأموال التي يغرقون في بحارها الزاخرة، فيكبر عليهم ذلك، فيثوروا في وجه أولئك الدعاة، ويتمادون في الطغيان والعصيان، ولو أنهم وقفوا مع عقولهم لحظة، لأدركوا أن أولئك المصلحين الدعاة إنما يريدون لهم الهداية، والاستقامة والفلاح في الدنيا والآخرة، وأن يوظفوا تلك النعم التي كثرت في أيديهم فيما فيه خير لأنفسهم ومجتمعهم وأمتهم، وفيما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم.

ولقد ضرب الله تعالى أمثلة لأولئك المترفين في كتابه الخالد فحدثنا عن قارون، الذي آتاه الله الأموال الكثيرة واعتقد أنه أوتي المال لمهارته الذاتية دون فضل الله عليه:[إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الفَرِحِينَ] {القصص:76}.

ثم حدثنا عن عاقبة ذلك المترف:[فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ] {القصص:81}.

وحدثنا عن صاحب الجنتين حين دخل جنته، فقال معتزاً بزينتها منخدعاً بسكرة النعمة والمتاع:[وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا] {الكهف:36}. ساقه ترفه إلى استبعاد الآخرة:[وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا] {الكهف:42}.[وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا] {الكهف:43}.

وفي زعماء الشرك أمثلة لهؤلاء منهم الوليد بن المغيرة الذي آل به ترفه إلى أن يدَّعي على القرآن غير الحق، ويغتر بماله الممدود، والبنين والشهود والأتباع والجنود، فقال تعالى متحدياً ذلك المتغطرس المعاند منذراً إياه بنار لا تبقي ولا تذر: [ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا(12) )وَبَنِينَ شُهُودًا(13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا(14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا(16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا(17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20) ثُمَّ نَظَرَ(21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ البَشَرِ(25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ(28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ(29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(30) ]. {المدَّثر}..

إن الترف مفسد للفرد، لأنه يشغله بشهوات بطنه وفرجه، ويلهيه عن معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، ويقتل فيه روح الجهاد، والجِد والخشونة، ويجعله عبداً لحياة الدعة والرفاهية.

وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 27/12/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين