أداة التصوير: الظرف (إذ)

قلنا في الحديث عن كلمة (يوم): هي أداة تصوير المستقبل في مقال سابق ، تستحضر ما يحدث في (المستقبل) فتراه أمامك رأي العين.

أما (إذ) فهي مصورة مهمتها الأساسية استحضار ما حدث في (الماضي) فتعرضه عليك حيّاً متحركاً ،وكأنه يحصل الآن،فتستوعبه معنى وعِبرة وحركة. 

مثال ذلك قوله تعالى في سورة الأنفال الآية 42 حين يتحدث القرآن عن غزوة بدر التي حصلت في السنة الثانية للهجرة الشريفة ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد،ولكن ليقضي الله أمراً مفعولاً) اخذَنا الظرفُ (إذ) إلى الماضي قبل ألف وأربع مئة واربعين للهجرة ،والرائي على جبل بدر يرى المسلمين أسفل الجبل قريباً منه في العدوة الدنيا ، ويرى جيش مكة في الطرف الآخر من الجبل في العدوة القصوى ،أما ابو سفيان فقد ابتعد بقافلته نحو البحر متجنباً الوقوع بأيدي المسلمين ، فأنت ترى هؤلاء المجموعات الثلاثة أمامك يبحث الجيشان كل منهما عن الآخر، لا يرى بعضهم بعضاً ،وأنت تراهم جميعاً وقد جمعهم الله تعالى لأمر يريده ،لينصر دينه ويعلي شأنه.

ومثاله قول الله تعالى في سورة البقرة الآيات 30-33 ( وإذ قال ربك للملائكة :إني جاعلٌ في الارض خليفة ، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ،ونحن نسبح بحمدك ،ونقدّسُ لك! قال إني أعلم ما لا تعلمون ، وعلّم آدمَ الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء ،إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علمَ لنا إلا ما علّمتَنا، إنك أنت العليمُ الحكيم، قال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلمّا أنباهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض ،وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون)

نقلت (إذ) الحوار بين الله سبحانه وتعالى وملائكته الكرام في خلق آدم عليه السلام ،فكنتَ تسمع بأذن قلبك، وترى بعينه المشهد القديم والحوار الدائر بين الله وملائكته ، فالله تعالى يخبر، والملائكة تتعجب مستفهمة ،وتسمع وترى حديث آدم عليه السلام ، وتجد الملائكة يذلّون لله تعالى، فهو العليم الحكيم.لقد نقلـَتْنا ( إذ) إلى الجنة حيث الزمن البعيد يرتسم آمامنا بوضوح بيّن فنرى ونسمع.

ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة الحج الآية السادسة والعشرين وما بعدها ( وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً ،وطهِّر بيتيَ للطائفين والقائمين والرُّكَّع السجود، وأذن في الناس يأتوك رجالاً ،وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجِّ عميق...) 

جاء الفعل الماضي بعد (إذ) ليوضح لنا أن الصورة التي يرينا إياها اكتملت أركانها في الماضي من بناء الكعبة والدعوة إلى الحجِّ إليها ، فما بُنيَت إلا للتوجه إليها فقد ارشد الله سيدنا إبراهيم إلى مكان الكعبة فبنى البيت خالصاً لله،،وجعلتنا الصورة نرى الطائفين حول الكعبة والراكعين والساجدين،ونرى الحجاج يتوجهون على إبلهم إلى البيت من كل حدبٍ وصوب. هي صورة ترينا حركة الحجيج وشعائرهم وتدفقهم إلى بيت الله ،وتسمعنا ابتهالاتهم ودعاءهم ، إنها صورة حيّة تتكرر كل صباح ومساء من عهد إبراهيم إلى ما شاء الله من زمن .. 

وتنقلب (إذ) إلى صورة مستقبلية حين يسبقها الفعل (ترى) في قوله تعالى في سورة السجدة الآية 12 ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ،ربنا أبصرنا وسمعنا ،فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون) فالمجرمون مطرقون رؤوسهم يوم القيامة من ذل الشرك والكفر والهوان ،وهم في حضرة المولى العظيم يؤمنون بما كانوا في الحياة الدنيا ينكرونه ويحاربونه،تسمعهم يقولون: ربنا أبصرنا حقيقة ما حذرتنا منه ،وسمعنا ما كنا نأباه ونُكّذِبُه ، فرُدّنا إلى دار الدنيا نستدرك ما فاتنا، ونعمل صالحاً. إنها صورة مخيفة حملنا إليها الظرف (إذ) بالصورة المكتملة الأركان من لون وحركة وصوت.

إنها مصوِّرة بيّنة الابعاد ،جامعتها تأخذنا إلى حيث المشهد كأنه رأي العين معنىً وهدفاً وعظة وعبرةً . 

ملاحظة: ولا ننس أن نعرب (إذ) مفعولاً به لفعل محذوف تقديره: اذكر.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين