ملامح سور القرآن: سورة الحج

الحج موضوع السورة، ومشهد القيامة الجامع له صورة مصغرة في اجتماع الحجيج، إذ يأتي الناس من كل فج عميق، متجردين، مزدحمين، شعثًا، يذكرون بذلك يوم الجمع الأكبر، والفزع الأكبر.

وهو يوم للفصل، بين الملل والنحل، فكل الخلق مسخر مسبح ساجد لله، إلا الناس افترقوا فرقتين، واختصموا في ربهم، وسيجتمعون هناك ليذهب كل إلى جزائه.

وهو ليس اختلاف معتقد فحسب، ولكن هؤلاء الكافرين في الدنيا يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام المحجوج، يمنعون الناس من ديارهم ومن مساجدهم ومن عباداتهم، وذلك أعظم الظلم، (وإن الله على نصرهم لقدير)، وقد أذن لهم بالقتال، لرد العدوان.

وهؤلاء المأذون لهم المنصورون هم الذين جمعوا أركان صفات الخير، وإذا مكنوا (أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)، وسينصرهم الله كما يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويداول الأيام بين الناس.

وبين هذين الفرقتين أناس مذبذبون، يعبدون الله على حرف، لا صبر لهم ولا ثبات، يطمئنون إلى النعمة، وينقلبون في الفتنة، ويستعجلون النصرة.

مشهد الحج من مشاهد التوحيد والدين الخالص، فالنسك والصلاة والطواف لله، والتعظيم لحرماته وشعائره، وما أبعد الشرك والمشركين عن الحق، فلا ثبات ولا قرار ولا اتزان، كالذي خر من السماء، وهو مع خروره المخيف تتلاعب به الطير أو الريح.

ولأن الحج شعائر تلبِّي نزعة الإنسان إلى تجسيد المعاني في أفعال وأشياء كان ارتباط الحج بذبح الهدي والتقرب به إلى الله، ونبذ شرك الجاهلية في الذبائح، وتذكُّر نعمة الله في الأنعام إذ سخرها للإنسان وذللها وجعل منها مآكل ومشارب ومراكب وملابس.

ومن العبرة في بهيمة الأنعام أنها تشبه خلق الإنسان في أبدانها، ولكن الله سخَّرها له وجعلها مركوبا له ومأكولا، وكرمه وفضله عليها بالبيان وبالفؤاد وبالوحي وبالقرآن في الدنيا، وبكرامة الله للمتقين في الآخرة. فالأنعام أبدان مسخَّرة لا عقل لها ولا بقاء ولا خلود، فإذا ذبحها الإنسان تقربًا إلى الله رأى خلقها تشبه خلقه، فحمد الله على تكريم بني آدم.

وفي الحج منافع للمسلمين دنيوية، فهم باجتماعهم في الموسم كل عام ينتفع بعضهم من بعضهم، بالسفر والسير في الأرض، واكتساب العلم، والتدرب على حياة الخشونة، وبالتعارف والتشاور والتزاور، وبالتجارة والعمل والخدمة، فيرزق الله بعضهم من بعض. ومن قديم كانت رحلة الحج موسمًا للقاء، ومعاشًا وإنعاشًا لكل الروابط بين أقطار المسلمين.

وفي السورة تعبير فريد عن إهلاك المكذبين، فتخلو منهم ديارهم، وتتعطل أدوات حياتهم، وذلك قوله: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد)، ففيه إشارة إلى ما حفظ الله به بيته من عوادي الأيام بيتًا معمورًا، وبلدًا مزورًا، وأبقى بئر زمزم يَنتفع بها من يحج البيت مباركة، طعام طُعْم، وشفاء سقم، على حين خلت عمائر البشر، فذهب قاطنوها، وبقيت آثارها، وفيها لأهل القلوب المبصرة عبرة، فليس العمى في الأبصار ولكن في القلوب.

وما في السورة من ذكر إلقاء الشيطان في أمنية الرسول والنبي إشارة إلى التلبية وما كان نحوها من ذكر الله على ما جاءت به الأنبياء خالصًا من الشرك، ثم تُلْقي فيه الشياطين ما يُعَكّر صفاءه، وما يشوب خلوصه، ولكن الله ينسخه ويُحكم آياته بما يوحيه إلى أنبيائه، وما يوفق إليه أولياءه من تجديد الدين، ونفي ما ألقته الشياطين من الشرك والضلال، فيكون عمل الشيطان فتنة لأولي القلوب المريضة القاسية، ويكون ما أحكمه من آياته هاديًا لأولي العلم والبصيرة.

إن اتخاذ الأنداد من دون الله من مخازي العقل الإنساني، فهؤلاء الذين يُرفعون إلى مقام الألوهية عاجزون عن خلق ذبابة، أو الانتصاف من ذبابة.

وختام السورة وصية جامعة للمؤمنين، بالتعبد وفعل الخير والجهاد، وادكار ما يجمعهم، فلهم اسم يعرفون به، وهو أنهم مسلمون، ولهم إمام في هذه الملة، هو أبوهم إبراهيم، أبو الأنبياء، وداعية التوحيد، وباني البيت، ومؤذِّن الحج.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين