لا أدري، والله أعلم

إن أعز ما يقدمه الإسلام إلى المنهج العلمي مبدأ ( لاأدري). وهذا المبدأ يقوم أساساً على أصل من أصول العقيدة في استحالة إحاطة الإنسان بكل شيء علماً، فالله سبحانه وتعالى هو وحدَه الذي " أحاط بكل شيءٍ عِلماً ". أما نحن البشرَ فمخاطبون: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ".

حتى الرسلُ ـ عليهم السلام ـ لم يكن لهم علمٌ إلا بما تلقَّوه من وحي الله تعالى وما كان لأحد منهم أن يُجيب بغير (لا أدري) فيما لم ينزل فيه وحيٌ.

سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأله أحبار اليهود عما لا يدري من أمر الروح فتلا من كلمات ربه:

" ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" الآية.

وسأله قومه عن الساعة ولا علم له بها، فكان الرد من الوحي : " يسألونك عن الساعة أيان مُرساها فيمَ أنت من ذكراها إلى ربك مُنتهاها إنما أنت منذرُ مَن يخشاها " ( سورة النازعات).

"يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " ( الأعراف: 187).

إن العالم إنسان، وإن الإنسان بشَرٌعُرضة لأن يسهوَ ويغفُل وينسى ما تعلمه، وإن العلماء يتفاوتون، لا باختلاف علومهم وحسب، ولكن يتفاوتون كذلك في العلم الذي تخصصوا فيه بمقدار ما يتاح لكل منهم من رسوخ في العلم الذي تفرغوا له، ونفاذ في دقيق مسائله، وفِقه لأسراره، وتصدُق عليهم جميعاً الآية: " نرفع درجاتٍ مَن نشاء وفوق كلِّ ذي علم عليم".

والمسؤول فيما لا يدري لا يخرج عن إحدى ثلاث:

ـ أن يكذب وذلك من الكبائر، وفي الحديث المتواتر: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".

ـ أو يَرجُمَ بالظن، وذلك محظور في الإسلام:

" وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا" (النجم: 28).

ـ فلم يبق إلا الثالثة: أن يقول: لا أدري. قال عليه الصلاة والسلام: " أيها الناس مَن علم منكم شيئاً فلقل لما لا يعلم: الله أعلم، فإن مِن علمِ المرء أن يقول لما لا يعلم : " الله أعلم".

وقد تلقى هذه المقولةَ" (لا أدري ـ لا أعلم) تلاميذُ مدرسة النبوة من الصحابة والتابعين، فقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما:" إذا أخطأ العالم(لا أدري) أصيبت مقاتله"، وسئل سعيد بن جبير عن مسألةٍ في الدين فقال: لا أعلم.

ـ ويروون عن القاسم بن محمد أن رجلاً حضر مجلسه، فسأله عن شيء، فقال رضي الله عنه: لا أحسنه. فجعل الرجل يقول: إني رفعت إليك السؤال لا أعرف غيرك، فرد عليه القاسم: " لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه".

قال شيخ من قريش وكان حاضراً بالمجلس:" يا ابن أخي، الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبلَ منك اليوم". فقال القاسم: " والله لَأنْ يُقطعَ لساني أحبُّ إليّ من أن أتكلم بما لا أعلم ".

ذكرها الإمام مالك وقال: " لأن يعيشَ الرجل جاهلاً خيرٌ مِن أن يقول على الله مالا يعلم. هذا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه وقد خصه الله بما خصه من الفضل يقول : " لاأدري".

أما شيخ مالك (سفيان الثوري) فقال: " أدركنا الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا حتى لا يجدوا بُداً من أن يفتوا، وإن أعفوا منها كان أحبَّ إليهم".

وأما الإمام أحمد بن حنبل فقال: " مَن عرّض نفسَه للفتيا فقد عرّضها لأمرعظيم، إلا أنه قد تلجئ إليه ضرورة".

مِن هنا دخل الالتزام كلمة (والله أعلم) يثبتها علماء الإسلام بعد الذي يقدمون أو يدونون من علم.

ولعلها التي تحمي الأمة من جرأة من يجسر على ادعاء العلم بكل شيء، ولم يخش سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، على الدين إلا من آفته: " آفة الدين ثلاث: فقيه فاجر، وإمام جائر، ومجتهد جاهل".

فأين نحن اليوم من" لا أدري، والله أعلم"؟ وفينا من يخوض في كل علوم الدين والدنيا وغيب الآخرة؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" إن الله لا يقبِض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكنْ يقبِض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمٌ، اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً أفتَوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين