مقدمة كتاب حياة مالك للسيد سلمان الندوي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد اتصل بي منذ أيام الأخ الكريم الأستاذ مجيب الرحمن عتيق الندوي اتصالا بِكْرا غير مسبوق برؤية ولا لقاء، وغير معهود بذكر ولا تعارف، وفاجأني بخبر سارٍّ في زمن غربت فيه الأخبار السارَّة أو ندرت، بشرني بقضائه ترجمة ("حياة مالك" للعلامة السيد سليمان الندوي رحمه الله تعالى) من الأردية إلى العربية، ويا لها من بشرى صادقة، فهنأته على هذا الإنجاز المبارك، وسألني أن أقدِّم له، فاعتذرت إليه بتزاحم الأشغال علي، ورجوته أن يعذرني، ولكنه كرر سؤاله بقول فيه لين وحلاوة، فاستسلمت له ووافقت على طلبه رجاء درج نفسي في هذا الجهد الميمون النافع، وكيف لا وهذا الكتاب من أجلِّ الكتب المترجمة من الأردية إلى العربية في العهد الذي نعايشه.

إن مؤلف الكتاب العلامة السيد سليمان الندوي بحاثة محقق وأديب نقاد، مستجمع لأسباب البحث والتحقيق، بصير بمذاهب العلم والأدب، ومتحقق بوسائل النظر والنقد، اتفقت كلمة الذين صحبوه أو قرأوه على رأي واحد لا يختلف، وهو أنه مفخرة الهند ومعجزتها في فقه السيرة وإدراك أغوار التاريخ، لا نِدَّ له في البابين ولا قرين، تُعلِّم كتاباته النظر والتثبت أولا، ومنهج العرض والأسلوب ثانيا، وإن ما شيده من منارات رفيعة في العلم والأدب ليعجز عن دركه الملوك والسلاطين والغزاة الفاتحون.

امتاز العلامة الندوي – إلى جانب تقدمه في عامة المعارف والفنون – بعناية فائقة بالحديث النبوي الشريف، إذ أخذ أمهات كتبه عن شيوخه في دار العلوم لندوة العلماء، وطالع "العجالة النافعة" و"بستان المحدثين" للإمام عبد العزيز بن أحمد الدهلوي، ثم أولع بموطأ الإمام مالك، وضاعف من رغبته في الحديث الشريف دراسته لتذكرة الحفاظ للإمام الذهبي، وفتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني.

نظر في كنوز السنة بدقة تامة لا سيما خلال اشتغاله بموسوعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، استند في تأليفهما إلى الأصول الستة، وموطأ الإمام مالك بروايتي يحي ين يحيى الليثي ومحمد بن الحسن الشيباني، ومسند أحمد بن حنبل، ومصنف عبد الرزاق، ومسند البزار، ومسند ابن الجارود، والأدب المفرد، وسنن الدار قطني، وصحيح ابن خزيمة، ومعاجم الطبراني، وصحيح ابن حبان، وسنن الدارمي، وسنن البيهقي، ومشكاة المصابيح، وكنز العمال، وفتح الباري، ونيل الأوطار.

ومن حبه للأخبار والآثار وشغفه بها أنه كان دائم الحرص على اقتناء مصادرها الأساسية والثانوية في دار المصنفين، حتى أصبحت خزانة دار المصنفين حافلة بكتب الحديث وعلومه ورجاله.

وهذا الكتاب الذي بين أيدينا عرض لحياة إمام دار الهجرة، وصفاته وأخلاقه، وإبداعه الفريد "الموطأ"، سادًّا به مكانا خاليا في الأدب الأردي، ألفه وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، بيد أن قراءته تَشِي بأنه إنتاج طاعن في السن كبير، وعالم خبير، وكاتب قدير.

تطورت فيه أيام طلبه صلة وطيدة بالإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وكان يفضل موطأه على الصحيحين، كتب في مجلة "الندوة" سنة 1907م مقالا طويلاً تحت عنوان "حياة الإمام مالك" نشر في أعداد مختلفة، ثم جمع تلك الحلقات المبعثرة ونسقها تنسيقا، ولقي الكتاب قبولا واسعا، وصدرت له عدة طبعات.

تناول في الكتاب نسب مالك ومولده، وبيئته، وثقافته، وتلقيه للعلوم، وشرف المدينة المنورة، وتاريخ فقهاء الصحابة فيها، وفقهاء التابعين، وشيوخ مالك، وأخذه للقراءة، وسماعه للحديث، وتراجم شيوخه نافع، وابن شهاب، ومحمد بن المنكدر، وأبي حازم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة وغيرهم، وعد شيوخه على حروف الهجاء، وشيوخه من غير أهل المدينة.

وناقش فيه أخذه للفقه عن ربيعة الرأي، وموضوع الفقه والفتيا، والفرق بين الفقيه والمحدث، وطبقات فقهاء الصحابة الثلاث، وفقهاء المدينة من التابعين لاسيما الفقهاء السبعة، ومجلس الفقه في المدينة، وفقه أهل المدينة، وفقه مالك، وكراهيته للرأي، وظنية الرأي.

وتحدث عن أحواله العامة، وعدم خضوعه للسلطان في أمر الحق، وانقضاء الخلافة الأموية، ونشأة الخلافة العباسية، واقتراح منصور العباسي بإكراه الناس على العمل بالموطأ، وموقف مالك من العلويين.

وعالج أخذ الناس عنه على طبقاتهم المختلفة، ورحلة الكبار والطلبة إليه، وسبب عدم روايته لأحاديث علي وابن عباس، ووفاته، وأخلاقه وشمائله، والموطأ، وعدد أحاديثه، ومكانته من بين سائر كتب الحديث، ومزيته على الصحيحين، وروايات الموطأ، وشروحه والتعليقات عليه.

والحمد لله على أن هذا الكتاب القيم تم نقله إلى العربية أخيرا، وسبق أن ترجم كاتب هذه السطور كتابه (أرض القرآن) إلى العربية، كما عرب الأخ حسيب الندوي وغيره بعض مؤلفاته الأخرى وبحوثه، تمتاز كتبه كلها بالبحث والتحقيق وإثراء المعارف البشرية وهي من أهم أجزائها، حقيقة بالإعجاب والتقدير، وترجمتها تعني الإضافة إلى كنوز اللغة العربية إضافة أصيلة.

وكم من ثروات علمية وأدبية في الهند مطوية باللغتين الفارسية والأردية، وعامة العلماء في البلدان العربية لا يعرفون منها إلا أطلالا بالية ورسوما دارسة، فأين الرواد؟ وأين المتمكنون من اللغة العربية؟ ألا من مُنبِّه لهم فيظهروا هذا الكنز الخفي لطالبيه، ويفتحوا على جماله الأبصار، ويلفتوا إلى ذلك المجد القلوب، ويردوا إلى إخواننا العرب بضائعهم التي استوردت منهم استيرادا.

ومن تلك الكنوز المستورة من عيون العرب مصنفات علماء الندوة في القرآن الكريم وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه، والسيرة، والتاريخ، ومما ينكي القلوب أن ورثتها من المتخرجين الأحداث أقل خلفٍ شوقا إلى نشر تراث سلفهم، وأبعد الناس عن معاناة المشقة وخوض الغمار، زاهدين في العلم والأدب نافرين، ومنصرفين عن البحث والتحقيق معرضين، تُغريهم أطماع مادية حقيرة، وأمور تافهة هزيلة، ويا له من عقوق.

ولم ينتدب لمداواة هذا العقوق إلا رجال يعدون على الأصابع، منهم الأستاذ المترجم لهذا الكتاب، وهو من المعنيين بالتدريس والتأليف، ومن إسهاماته البارزة باللغة العربية: الإمام الدهلوي ومنهجه في التجديد والإصلاح، والإمام أحمد بن عرفان عبقري الدعوة وبطل الجهاد، والصراع بين أصحاب العقيدة والإيمان وأهل الكفر والطغيان في ضوء سورة البروج.

ونعترف للأستاذ مجيب الرحمن الندوي بالفضل على ترجمته للكتاب مقدرين سعيه، والترجمة عملية صعبة مضنية تتطلب الإلمام الكافي باللغتين المترجم منها وإليها، ولم يقتصر على التعريب، بل بذل جهده في تحقيق نصوص الكتاب، والتعليق عليه بفوائد، الأمر الذي يحتاج إلى توفر همة واجتماع نشاط كبير مستمر متجدد، ولا يتأتى ذلك إلا لمن غض بصره عن كل ما لا يعنيه، وعمل على قاعدة العلم للعلم فقط.

أدعو الله تعالى أن يرزق له القبول، ويتغمد مؤلفه برحمته ورضوانه، ويوفق للمترجم الباحث بعونه ولطفه الزيادة في الخير علما وعملا.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين