مهزلة جهل المتون

بقلم / المختار ولد آمين


تدل التجارب البشرية والسنن الكونية على أن أهل كل فن أعلم به وأقدر على تقويم المنتسبين إليه ، فإذا رأيت أهل الأدب يعظمون أديباً ويقدمونه ويعتبرونه رمزاً ومرجعاً فصدق أنه أهل لهذه الصدارة وهذا التقديم ، وإذا رأيت ذلك في النحت أو الموسيقى أو الطبخ أو غير ذلك فما عليك سوى التصديق بتلك المكانة لصاحبها ، مهما كان مستواك في القرب أو البعد من ذلك التخصص وفهمه والاطلاع عليه .
فإذا رأيت الجامعات ومراكز البحث العلمي ودور الإفتاء ومجالس كبار العلماء تستدعي أستاذاً زائرا ويجتمع متصدروها وقادة علمها مثنين ركبهم طلباً بين يديه ، واضعين عويص إشكالاتهم عليه ، صادرين فيها عن فهمه وفقهه وحكمه فمقتضى العقل والمنطق أن توقن بأن هذا العالم أهل للتصدر ومرجع في العلم والفقه والفهم .
وبالمنطق نفسه إذا رأيت مقدماً في "الإعلام العربي" والصحافة وعند عوام الناس فاعلم أنه يستحق التقديم !
وقد أبدعت الحضارة البشرية عامة والإسلامية خاصة أسلوباً لدراسة العلوم وتفقهها والتمكن منها بحفظ "متون" تضبط معالمها ، وتحدد أسسها ، وتقرب مسائلها .
وكانت القرون الإسلامية الأولى أفضل نموذج لـ"حفظ المتون" واستظهارها :
فأمنا عائشة – نموذج العلم النسائي بلا منازع – رضي الله عنها حفظت من "متون" شعر لبيد بن ربيعة وحده 12 ألف بيت .
وابن عباس المفقه في الدين معلم التأويل كان يصرف من غالي أوقاته لحفظ "متون" عمر بن أبي ربيعة المخزومي وغيره ما يراه لازماً للتأويل الذي دعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلّمَه ، ومن مقتضى ذلك هدايته لطريقة تعلمه ، ولم يكن لنافع بن الأزرق الخارجي الذي لا يرى "تحكيم الرجال" أن يقتنع بتفسير بن عباس إلا بشفيع من "المتون" التي يحفظها ابن عباس عن ظهر قلب !
ومنذ بدء التدوين أحس حملة العلم من القرون الثلاثة الأولى بالحاجة إلى تأليف "متون" في جميع جوانب المعرفة الإسلامية ؛ فأسس علي بن أبي طالب – أو تلميذه أبو الأسود الدؤلي – النحو ، واخترع الخليل بن أحمد العروض ، وألف "العين" ، ووضع الإمام الشافعي أصول الفقه ، ودون أبو عبيد القراءات ، وألف سيبويه "الكتاب" إلى غير ذلك .
وكان لجميع هذه المؤلفات التي صدرت قبل انقضاء القرن الثالث الهجري من يعتني بحفظها كما هي قبل أن تسهّلها وتهذبها يدُ الإبداع الإسلامية باختصارها إلى متون تجمع معانيها بعبارات أوجز مع استيفاء المعنى والوفاء بالمقصود .
وقد شهدت القرون الإسلامية التالية – من الرابع وحتى التاسع – نهضة علمية وحضارية في جميع المجالات لم يعرف التاريخ البشري لها نظيرا ، ولا يصف هذه المرحلة بـ"عصر الضعف العلمي" من اطلع على أي إنتاج علمي أيّاً كان نوعه ، فضلاً عن دارس العلوم الشرعية والأدبية !!
وما كانت وسيلة تلك النهضة الشاملة إلا "حفظ المتون" التي عاشت على عطائها البشرية كلها مئات السنين بعد ذلك ، بدءاً بالقرآن والسنة ، وانتهاء بمتون الحساب والفلك والطب ، حتى قال العلماء ، من باب ما يسميه حفظة المتون بـ"الاستخدام": (حفظ المتون يشدُّ المتون) !
لكن ما أصاب الأمة – بعد هذه المرحلة – من ضعف علمي وحضاري ، كان بالغ الأثر في جوانب كثيرة ، وأصقاع مختلفة من مساكن أمتنا المباركة ، وكان من فضل الله على الشناقطة بالذات تنكبهم في صحراء نائية انطوت عليهم فعمروها بالعلم حفظاً وفهماً عبر المحاضر التي تضوَّع نشرُها من شنقيط حتى جاكرتا ، مروراً بمصر والشام والحجاز ونجد ، وكانت منهجية ذلك العلم كله منطلقة من حفظ وفهم كتاب الله أوّلاً ، وما كانوا يسمحون بالبدء في طلب العلم إلا بعد إتقان القرآن ، لا حفظاً لألفاظه ، بل استيفاء لفروع علومه ، حتى التي قد لا يسمع عنها غير المتخصصين في البيئات التي لا عهد لها بالعلم الشرعي !
إلا أن هذه المكانة للشناقطة لا يعرفها أو يعترف بها إلا من يقدر على تقويمها وإدراك أهميتها ، فـ "قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم".
ولئن لم يشأ كاتبُ "الشرق الأوسط" الفاضلُ أن يمثل في العلم والفهم والتأثير بمن هم أشهر وأبلغ أثراً من العالمين الجليلين اللذين ذكرهما ؛ حرصاً – في ظنه – على نماذج لم تتربَّ في العلم على أيدي الشناقطة ، فقد خانه علمه في هذه بما هو معروف من سيرتيهما رحمهما الله .
ولئن كان علماء الشناقطة – في الغالب – يفضلون "صناعة الرجال" على "صناعة الكتب" إيثاراً لمنهج التربية الإسلامية الأصيل بنصب القدوات والتدريب اللازم لصناعة الرجال ، بدلاً من مئات آلاف النسخ الورقية التي لا تقوّم معوجّاً ، ولا تصحح مساراً ، فإنك لا تكاد تجد (رجلا) بارزاً في مجال من المجالات العلمية إلا رأيت أثر الشناقطة في علمه وعمله وسلوكه ، فمن يجهل العلامة عبد السلام هارون ، أو محمد فؤاد عبد الباقي ، أو محمد عبد الحي الكتاني ، أو حسن مشاط ، أو علوي المالكي ، أو المفتي محمد بن إبراهيم ،أو ابن باز ، أو عطية سالم ، أو محمد طاهر الكردي ، أو حتى من مثّل بهما الكاتب : الشيخان السعدي والألباني ؟ والقائمة تطول ، و"لا تحزن" أيها الفاضل إن لم أتبرع بإطلاعك على مصادر علاقة هؤلاء بأشياخهم الشناقطة ؛ إذ ذاك معروف عند "حفظة المتون" وباستطاعة الممارس الوصول إليه بلا كلفة.
ولا أظنني بحاجة إلى جمع أقوال العلماء في شتى العصور في الحث على حفظ المتون ، بل ما علم المسلمون التزهيد في ذلك إلا بألسنة وأقلام العلمانيين المسيطرين على الصحافة والإعلام في هذا العصر العجيب !
أما النحول والصفرة والشحوب فما علمَها حفظةُ المتون مثالبَ في الرجال ، ولا كان عمرُو بن كلثوم عندما قال : "ومأكمة يضيق الباب عنها" ولا امرؤ القيس عندما قال : "مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل" يمدحان (رجلاً) !
ولو أني ذكرت من تجديد وفهم علماء الشناقطة المتربين على "حفظ المتون" نماذجَ بعيدةً عن الأضواء لا يعرف "أهل الإعلام" عنها الكثير لصدق فيّ مثلُنا الشعبي القائل : (من أراد الكذب فليبعد شهوده) فلأذكر – للتمثيل – الإمام القدوة "المجدد" بشهادة أهل العلم لا بإبراز الإعلام : الشيخ محمد الحسن بن الددو ، الذي رأيت لكاتب "الشرق الأوسط" الفاضل مدحاً له قبل أن يستلم عموده فيها معترفاً بعلمه وفضله بقوله فيما يسميه شعراً:


وَمحَمَّدُ الْحَسَنُ الْمُورِيتَانِي فِي    جَمْعِ الْفُنونِ وَدِقَّةِ الإِتْقَانِ    
وَلَهُ جَزَاهُ اللَّهُ خَيـراً هِمَّةٌ   تَرْ بُو عَلَى الْمِرِّيخَ أَو كِيوَانِ    
فَإِذَا تَرَبَّعَ لِلْحَدِيثِ حَسِبْتَهُ   حَمَّادَ يَرْوي النَّقْلَ عَنْ سُفْيَانِ    
وَإِذا أَردتَ النَّحْوَ فَالزَّجَّاجُ فِي   حُسْنِ الْكَلامِ وَروْعَةِ الـتَّبْـيَانِ
وَلَهُ التَّدَفُّقُ فِي الْبلاغَةِ مُحْسِناً   مَاكَانَ بِالْوَانِي وَلا الْمُتَوَانِي    
وَالْحِفْظُ سُبْحَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ مِنْ    فَيْضِ النُّصُوصِ وَقُوَّةُ الْبُرْهَانِ    
والْفِقْهُ فُصِّلَ فِي غُضُونِ كَلامِهِ     فَكَأَنـَّهُ شَيْخُ الَتُّـقَى الْحَرَّانِي
قَدْ زَانَهُ اللَّهُ الْكَرِيمُ بِحُلَّةٍ       من أَجْمَلِ الأَخَلاقِ وَالإِحْسَانِ
فَبَشَاشَةٌ أَخَّاذَةٌ وَتَواضَعٌ    يَسْبِي الـنُّفُوسَ بِغُصْنِهِ الْفَيْنانِ
مَعْ أَنـَّهُ مَا شَعَّ شَيْباً رَأْسُهُ     وَلَهُ ثَلاثُونَ خَلَتْ ثِنَتَانِ
لَوْلا الْعَوَاذِلُ قُلْتُ : أَحْفَظُ عَصْرِنَا   وَسِوَاه مِن حُفَّاظِنَا اِثْنَانِ
لَكِنَّهُ عِندِي أَحَبُّ لِدِينِهِ     وَكَمَالِ غَيْرَتِهِ عَلَى الإِخْوَانِ    
وَسَلامَةٍ فِي صَدْرِهِ وَتَعَفُّفٍ    عَنْ عِرْضِ كُلِّ مُوَحِّدٍ رَبَّانِي   

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين