حدث في مثل هذا اليوم: وفاة المحدث محمد بن يحيى النيسابوري

الإمام المحدث محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري

في السابع والعشرين من ربيع الآخر من سنة 258 توفي في نيسابور، عن 86 سنة، الإمام المحدث أبو عبد الله، محمد بن يحيى بن عبد الله الذُهلي النيسابوري، والذهلي نسبة إلى قبيلة ذهل بن شيبان، كان لأحد أجداده علاقة ولاء فيها.

ولد الذهلي سنة 172 في نيسابور، في شمالي شرق إيران قرب الحدود مع أفغانستان، وطلب الحديث وهو صغير، ثم في سنة 197 ارتحل في طلب الحديث إلى الري، وهي طهران اليوم، فأخذ عن قاضيها الإمام المحدث يحيى بن ضريس البُجلي الرازي، المتوفى سنة 203، وكان من بحور العلم وعنده عن حماد بن سلمة عشرة آلاف حديث.

وأخذ الذهلي في نيسابور عن عالم خراسان الحافظ يحيى بن يحيى التميمي المنقري النيسابوري، المتوفى سنة 226، وكان يرجع إليه في المشكلات ويقول: هو إمام فيما بيني وبين الله. وفي مجلس هذا الإمام الجليل جاءت الذهلي نصيحة وجهته للمبادرة بالرحلة في طلب الحديث وإدراك المشايخ، فقد نظر علي بن سلمة اللبقي، المتوفى سنة 252، إلى حسن خطه وتقييده، فقال: يا بني، ألا أنصحك؟ إن أبا زكريا يحدثك عن سفيان بن عيينة وهو حي، وعن وكيع وهو حي بالكوفة، وعن يحيى بن سعيد وجماعة أحياء بالبصرة، وعن عبد الرحمن بن مهدي وهو حي بأصبهان، فاخرج في طلب العلم، ولا تضيع أيامك. فتأثر بهذا القول وأخذ بهذه النصيحة، وخرج إلى الرحلة في طلب الحديث.

رحل الذهلي إلى البصرة سنة 198 فدخلها يوم توفي الإمام المحدث يحيى بن سعيد القطان، ولكنه أدرك الإمام عبد الرحمن بن مهدي، المولود سنة 135، فأدام مجالسته والأخذ عنه، وكان في هذا موفقاً لأن ابن مهدي توفي بعد 4 شهور، وهو أكبر شيوخه في الحديث، وأخذ كذلك عن أبي داود الطيالسي، سليمان بن داود ، المولود سنة 133والمتوفى سنة 204، والذي كان يقول: أسرد ثلاثين الف حديث ولا فخر! 

وأخذ الذهلي عن الإمام يحيى بن معين، المولود سنة 158 والمتوفى سنة 233، ونقل عنه قوله العظيم السديد: الذَّبُّ عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله. فقال له متسائلاً مستغرباً: الرجل ينفق ماله، ويتعب نفسه، ويجاهد، فهذا أفضل منه!؟ قال ابن معين: نعم، بكثير.

ومن الطبيعي أن يحط الذُهلي رحاله عند الإمام أحمد بن حنبل إذ كان هو إمام العصر ومحدثه، على كثرة من حوله من الأئمة والمحدثين، وكانت علاقة الذهلي بالإمام أحمد بن حنبل علاقة وثيقة قائمة على الاحترام وتقدير العلم الذي يحمله، وكان الإمام أحمد إذ دخل عليه محمد بن يحيى الذهلي يقوم إليه ويقرب مجلسه، ويأمر بنيه وأصحابه أن يكتبوا عنه، وكان يسأل عن أخباره الواردين من نيسابور ويثني عليه أمامهم، وقال لأحدهم مرة: لو أنه عندنا، لجعلناه إماما في الحديث.

وولد للذهلي ابن أسماه يحيى، ويلقب حَيكان، ورحل به ليسمع الحديث كما هي عادة كثير من المحدثين في ذلك الوقت، وحيث كانت علاقته مع الإمام أحمد بن حنبل جِدُّ وثيقة، فقد ذهب به ليسمع منه، وصاحبه في رحلته عدد من طلبة الحديث، وجرت للذهلي قصة مع الإمام أحمد بينت عن عقله وحكمته، قال محمد بن يحيى: لما رحلت بابني إلى العراق صحبني جماعة من الغرباء، فسألوني: أي حديث عند أحمد بن حنبل أغرب؟ فكنت أقول: إذا دخلنا عليه، سألته عن حديث تستفيدونه. فلما دخلنا سألته عن حديث يحيى بن سعيد، عن عثمان بن غياث، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر، عن عمر حديث الإيمان، فقال: يا أبا عبد الله، ليس هو عندي عن يحيى بن سعيد. فخجلت، وقمنا، فأخذ أصحابنا يقولون: إنه ذكر هذا الحديث غير مرة، ثم لم يعرفه أحمد. وأنا ساكت لا أجيبهم.

وتابع الذهلي الرحلة مع أصحابه إلى البصرة ليسمعوا من محدثيها، وعلى رأسهم الإمام علي بن المديني، علي بن عبد الله، المولود سنة 161 والمتوفى سنة 234، ثم عادوا في طريقهم إلى بغداد، قال الذهلي: ثم قدمنا بغداد، فدخلنا على أحمد، فرحب بنا، وسأل عنا، ثم قال: أخبرني يا أبا عبد الله: أي حديث استفدت عن مسدد، عن يحيى بن سعيد؟ فذكرت له حديث الإيمان. فقال أحمد: حدثناه يحيى بن سعيد. ثم أخرج كتابه، وأملى علينا.

وسكت الذهلي ولم يقل للإمام: سألناك عنه من قبل، فلم تتذكره. وتعجب أصحابه من صبره، ثم أُخبِرَ الإمام أحمد أنه كان سأله عن الحديث قبل خروجه إلى البصرة، فأعجبه عقله ورزانته، وكان إذا ذكره يقول: محمد بن يحيى العاقل!

ثم خرج الذُهلي من بغداد مع الحاج إلى الحجاز فسمع الحديث من مشايخ المدينة المنورة ومكة المكرمة، ثم رحل منها إلى اليمن حيث أخذ الحديث عن محدثي اليمن وروى قدراً كبيراً من أحاديث الإمام عبد الرزاق الصنعاني، عبد الرزاق بن همَّام، المولود سنة 126 والمتوفى سنة 211.

وأخذته رحلته في طلب العلم إلى مصر والشام وجزيرة ابن عمر، وصارت لديه حصيلة وافرة من الحديث، ولم تكن رحلته هذه الأولى والأخيرة فقد كانت بعدها رحلتان، وكان الذهلي يتحدث بنعمة الله عليه في ذلك فيقول: : ارتحلت ثلاث رحلات، وأنفقت على العلم مئة وخمسين ألفا.

وعاد الذهلي إلى بلده نيسابور بعد أن حمل العلم والحديث عن الكبير والصغير، والبعيد والقريب، والمحدث والمفتي، وأهل الحديث وأصحاب المذاهب، فصار إمامها وشيخها الأكبر مع السؤدد والتعظيم، أشبه بما تمتع به الإمام أحمد بن حنبل في بغداد والإمام مالك بن أنس في المدينة المنورة، ولم ينقطع الذهلي بتسنمه هذه الوجاهة عن طلب العلم والتحقيق، والتعب في سبيل ذلك، قال ابنه يحيى: دخلت على أبي في الصيف الصائف وقت القائلة، وهو في بيت كتبه، وبين يديه السراج، وهو يصنف، فقلت: يا أبة، هذا وقت الصلاة، ودخان هذا السراج بالنهار، فلو نفست عن نفسك. قال: يا بني، تقول لي هذا، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين!!

وبقي الذهلي على صلة وثيقة بالعلماء الذين رحل إليهم، ويدلنا على ذلك رواية وصلتنا عن رسالة أتته من البويطي خليفة الشافعي في درسه ومذهبه، فقد امتحن الخليفة العباسي الواثق أبا يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي، وأمر بإحضاره في الأغلال الثقيلة من مصر إلى بغداد ليجبره على القول بخلق القرآن، ومات البويطي مسجوناً مظلوماً، وأرسل من سجنه رسالة للذهلي يسأله الدعاء له في محنته، قال مستملي الذهلي: حضرنا مجلس محمد بن يحيى الذهلي، فقرأ علينا كتاب البويطي إليه، وإذا فيه: أسألك أن تعرض حالي على إخواننا أهل الحديث، لعل الله يخلصني بدعائهم، فإني في الحديد، وقد عجزت عن أداء الفرائض والطهارة والصلاة. فضُجَّ الناس بالبكاء والدعاء له. 

وتميز الذهلي بجمعه لمرويات الإمام محمد بن شهاب الزُهري، المولود سنة 58 والمتوفى سنة 124، وهي من الأهمية بمكان لكون الزهري من أوائل من جمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة ما يتعلق بالسيرة والشمائل، وقد انفرد بسنن كثيرة وبرجال عدة لم يرو عنهم غيره، وكان للعلماء ثقة في عمل الذهلي فلم يتعقبوه أو يزيدوا على ما فعل، قال سعيد بن منصور ليحيى بن معين: لم لا تجمع حديث الزهري؟ فقال: كفانا محمد بن يحيى ذلك. وبقي الثناء على هذا الكتاب حتى ممن جاؤوا بعدهم وكان من سماتهم التعقب والتدقيق، فقد جرى بين الإمام الدارقطني، علي بن عمر، المولود سنة 306 والمتوفى سنة 385، وبين أبو عبد الرحمن السُّلمي النيسابوري، محمد بن الحسين، المتوفى سنة 412، جرى بينهما حديث عن محمد بن يحيى الهذلي فقال له الدارقطني: من أحب أن ينظر ويعرف قصور علمه عن علم السلف، فلينظر في علل حديث الزهري لمحمد بن يحيى.

ويبدو أن الذهلي جمع الأحاديث الزهريات وهو في الطلب لم يعد بعد إلى نيسابور، فقد ذكر المحدث أبو عبد الرحيم محمد بن أحمد بن الجراح الجوزجاني، قال: قلت لأحمد بن حنبل: إني أريد البصرة، وقد عرفت أصحاب الحديث وما بينهم. فقال: إذا قدمت فسل عن محمد بن يحيى النيسابوري، فإذا رأيته فالزمه. ثم قال: ما قدم علينا أحد أعلم بحديث الزهري منه، ولا أصح كتاباً منه. 

وقصد المحدثون نيسابور من كل الأقطار للسماع من محمد بن يحيى الذهلي والرواية عنه، فقد صارت الرحلة إليه لازمة لكل محدث، ومن أبرز من أخذ عنه الإمام المحدث ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، المولود سنة 209 والمتوفى سنة 273، والإمام المحدث أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعث، المولود سنة والمتوفى سنة 275، وكلاهما من أصحاب السنن.

وفي ذلك العصر ضاهت خراسان العراق في وجود محدثين أئمة بها صارت إليهم الرحلة، قال الحافظ أبو حامد ابن الشرقي، أحمد بن محمد المولود سنة 240 والمتوفى سنة 325: قيل لي وأنا أكتب الحديث في بلدي: لم لا ترحل إلى العراق؟ فقلت: وما أصنع في العراق وعندنا من بنادرة الحديث ثلاثة: محمد بن يحيى الذهلي، وأبو الأزهر أحمد بن الأزهر، وأحمد بن يوسف السُّلمي، فاستغنينا بهم عن أهل العراق. وتوفي أبو الأزهر سنة 261، والسلمي سنة 264. والبُندار التاجرفي المعادن يعرف صحيحها من زيفها. 

وقد أورد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد قصة تدل على متانة علم الذهلي ونجاحه في الاختبارات الخفية التي ينصبها المحدثون سبراً لمتانة علم الشيخ الذي يأخذون عنه، وقد جرت مع الإمام المحدث صالح جزرة، صالح بن محمد، المولود سنة 210 والمتوفى سنة 293، ولقب بجزرة لانه صحف في حديث: كان لأبي أمامة خرزة يرقي بها المريض. فقال: جزرة.

قال صالح جزرة: لما خرجت من الري قلت لفضلك: عمن أكتب بنيسابور؟ قال: إذا قدمت نيسابور فانظر إلى شيخ بهي، حسن الوجه، حسن الثياب، راكباً حماراً، وهو محمد بن يحيى، فاكتب عنه فإنه من قرنه إلى قدمه فائدة. قال: فلما قدمت نيسابور استقبلني محمد بن يحيى، فعرفته بهذه الصفة، فذهبت معه، وانتخبت عليه مجلساً وقرأته عليه، فلما فرغت قلت له: أفادني الفضل بن العباس الرازي حديثاً عنك عند الوداع لأسمعه من الشيخ. فقال: هات. فقلت: حدثكم سعيد بن عامر، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن صبيح، عن محمد بن سيرين، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا خالي فليرني امرؤ خاله. فقال محمد بن يحيى: من ينتخب مثل هذا الانتخاب، ويقرأ مثل هذه القراءة، يعلم أن سعيد بن عامر لا يحدث بمثل هذا الحديث؟ فقلت: نعم حدثكم سعيد بن واصل.

قال الخطيب البغدادي: قصد صالح امتحان محمد بن يحيى في هذا الحديث، لينظر أيقبل التلقين أم لا، فوجده ضابطاً لروايته، حافظاً لأحاديثه، محترزاً من الوهم بصيراً بالعلم. ولذلك عندما سئل صالح جزرة عن الذهلي، أجاب: ما في الدنيا أحمقُ ممن يسأل عن محمد بن يحيى!

وكان الذهلي يعتمد على أبي بكر الجارودي في مصنفاته لاتقانه العربية، والجارودي حافظ إمام عُرفت أسرتُه باتباعها للمذهب الحنفي، وكان جده الجارود صاحب أبي حنيفة، وصار أفرادها من أئمته في خراسان، ذلكم هو الإمام الحافظ محمد بن النضر بن سلمة بن الجارود، المتوفى سنة 291، وكان منزله بالقرب من منزل محمد بن يحيى الذهلي فنشأ معه وفي صحبته، وحدث مرة أن حدَّث محمد بن يحيى في مجلس الإملاء فردًّ عليه الجارودي، فزبره محمد بن يحيى، فلما كان المجلس الثاني قال محمد بن يحيى: ههنا أبو بكر الجارودي؟ قال له: نعم. قال: الصواب ما قلتَه، فإني رجعت إلى كتابي فوجدته على ما قلت. فاعجب لرجوع الإمام الذهلي وخضوعه للحق، واعجب لسكوت الجارودي مع كونه محقاً في تصويبه.

وفي سنة 250 جاء الإمام محمد بن إسماعيل البخاري إلى نيسابور، بعد مراسلات بينه وبين الإمام الذُهلي، ثم جرت بينهما قضية مؤسفة أدت بالبخاري أن يترك البلد حزيناً بائساً، فقد كان للبخاري رأي في مسألة خلق القرآن لا يتفق في جزئية مع الرأي السائد آنذاك في أوساط العلماء، ولم تشفع له عند بعضهم مكانته في علماء الحديث التي كانت كالشمس في النجوم، إذ لم يبق أحد منهم إلا وأثنى على علمه وعمله وإتقانه. 

وكانت قضية خلق القرآن قد خفتت أصواتها بتولى الخليفة المتوكل سنة 232، إذ كان من أول ما أمر به أن ينادى على المنابر بترك الجدل في القرآن، وأن الذمة بريئة ممن يقول بخلقه أو غير خلقه، فهدأت الفتنة وسارت الأمور على خير، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل أثنى على البخاري، وهو يعلم موقفه المخالف في هذه الجزئية، ولكن الإمام أحمد توفي سنة 241، ثم قتل المتوكلَ ابنه المنتصر سنة 247، فعادت الفتن تموج في عالم السياسة، وفي غياب حزم السلطان عاد كثير من المتعلمون إلى ديدنهم في إثارة القضايا الخلافية ومنها بل أولها خلق القرآن.

ولما جاء البخاري إلى نيسابور، قال عالمها وشيخها محمد بن يحيى الذهلي في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدا، فليستقبله، فإني أستقبله. فاستقبله محمد بن يحيى، وعامة علماء نيسابور، استقبالاً لم يستقبلوا بمثله واليا ولا عالما، استقبلوه من مرحلتين من البلد أو ثلاث، فدخل البلد، فنزل دار البخاريين، وحذَّر محمدُ بن يحيى العلماء والتلاميذ: لا تسألوه عن شئ من الكلام في خلق القرآن، فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن عليه، وقع بيننا وبينه، وشمت بنا كل ناصبي ورافضي وجهمي ومرجئ بخراسان. 

ونزل البخاري في دار البخاريين في نيسابور، وعقد فيها مجلس التحديث، وازدحم الناس على درسه حتى امتلأت الدار والسطوح، فلما كان اليوم الثاني أو الثالث من يوم قدومه، قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن، فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه، فألح عليه ثلاثا، فقال البخاري: حركات البشر وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين، المثبت في المصاحف، المسطور المكتوب، الموعى في القلوب، فهو كلام الله ليس بخلق، قال الله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾، وأفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يصنع كل صانع وصنعته.

ولما كان كثيرٌ من أهل الحديث يرقى بهذا القول إلى الخروج من الدين، فقد انفضوا عن البخاري وسماع الحديث منه، وقال له بعض الناصحين: ترجع عن هذا القول حتى يعودوا إليك. فقال البخاري: لا أفعل، إلا أن يجيئوا بحجة فيما يقولون أقوى من حجتي. 

وكان محمد بن يحيى الذهلي يحث الناس على الذهاب إلى مجلس البخاري ويقول: اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم، فاسمعوا منه، بل كان هو لا يتحرج أن يستفيد من البخاري أمام الناس، ويذكر أحد طلبة الحديث أنه رأى البخاري في جنازة ومحمد بن يحيى يسأله عن الأسامي والكُنى وعلل الحديث، ومحمد بن إسماعيل يمر في الجواب مثل السهم، كأنه يقرأ قل هو الله أحد.

ولكن الذهلي بعد أن صرح البخاري برأيه اتخذ منه شديد العداء، وحرم على الناس مجالسته والاقبال عليه والسماع منه، وقال الذهلي: القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته، وحيث يتصرف، فمن لزم هذا استغنى عن اللفظ وعما سواه من الكلام في القرآن، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر، وخرج عن الإيمان، وبانت منه امرأته، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وجُعلَ ماله فيئاً بين المسلمين، ولم يدفن في مقابر المسلمين، ومن وقف وقال: لا أقول مخلوق أو غير مخلوق. فقد ضاهى الكفر، ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق، فهذا مبتدع، لا يجالس ولا يكلم، ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه، ألا مَن يختلف إلى مجلسه لا يختلف إلينا، فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في اللفظ ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه ومن يقربه فلا يقربنا! 

ويعزو بعض الرواة موقف الذهلي إلى أن البخاري أضحى منافساً له في المكانة،وأن مجلس الذهلي لم يعد كما كان ممتلأً لانصراف الناس إلى مجلس البخاري، فحسده الذهلي بعد ذلك وتكلم فيه، وأنا أستبعد ذلك لأن الذهلي من أهل البلد وله عزوة وعصبية فيه لا تضعف بوجود البخاري، وأرجح أن يكون ذلك بسبب بعض "أهل الخير" في بغداد الذين كتبوا للذهلي يؤزُّونه على البخاري كما أشار الذهلي في كلامه.

وبسبب هذا التحذير والوعيد انقطع الناس عن البخاري إلا الإمام مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة النيسابوري، وكان للإمام مسلم موقف قوي في استنكار هذا فإنه عندما سمع هذا القول من الذهلي، أخذ رداءه فوق عمامته، وقام فترك المجلس على رؤوس الناس، ثم بعث إلى الذهلي جميع ما كان كتبه عنه على ظهر حمَّال، ولم يحدِّث في صحيحه عنه.

وخشي البخاري على نفسه من البقاء في نيسابور، وعاد إلى بخارى مسقط رأسه، ولم تجعله هذه الحادثة المؤلمة يمتنع عن الرواية عن الذهلي في صحيحه.

ولما توفي الذهلي تقدم في الصلاة عليه أمير خراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن الحسين الخزاعي، وخلفه في المشيخة ولده يحيى والملقب بحيكان، كما ذكرنا من قبل، وكان يحيى عالماً عابداً مجاهداً، ترأس المطوعة بخراسان، وترأس ثورة أهلية على أحد أمراء عمرو بن الليث الصفار، وهو أحمد بن عبد الله الخُجُستاني، لظلمه وعسفه، فخذلته جموعه عند اللقاء، فقبض عليه وقتله، في سنة 267.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين