نعيمان في الدنيا من نعيم الجنة 

يذكر بعض العارفين أنه لا يوجد في الدنيا من نِعَم الجنة إلا : ( التَمَلُّق ) الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل في جوف الليل ، ومحبة الإخوان. 

سأتحدث في هذه المشاركة عن النوع الثاني وهو محبة الإخوان في الله ولله عز وجل . 

اتصل بي عدد كبير من إخواني وأصدقائي وأحبائي يريدون أن يطمئنوا عليَّ في حالة المرض مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أكثر ، وبعد أن أكرمني الله عز وجل بالشفاء اتصلوا أيضا يعبرون عن سعادتهم وشكرهم لله عز وجل أن أنعم عليّ بالشفاء ، ولم تكفُ عني دعواتهم ورجاءاتهم تلاحقني ليل نهار ، كيف يمكن مكافأة هؤلاء الأحبة ؟ 

لعل السؤال الأصح : هل يمكن مكافأتهم ؟ 

الجواب عندي لا يمكن إلا بمبادلة الحب بمثله ، والإخاء والرجاء والدعاء بمثله في ظهر الغيب، إن كنوز الدنيا كلها لا تكفي مكافأة لأخ أحبك في الله، ودعا لك ، وخاف عليك، ودعا لك من قلب محب مشفق في هدأة الليل ، وفي سجوده. 

لقد أشعرتَني محبة أصدقائي بمعنى الحب في الله ولله عز وجل كيف يكون ، وكيف يجب على الإنسان أن يربيَ نفسَه وقلبَه وروحَه على هذا الشعور، لأنه من أجمل نعيم الدنيا ، كلما كان الحب خالصاً لوجه الله عز وجل كلما كان الحب كبيرا في القلب ، وكانت غرستُه نديَّةً مثمرةً في أعماق الفؤاد ، .. 

من أجل ذلك وصف القرآن نعيم الجنة بقوله: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ )) (( عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ . مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ . يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ )) .

ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الحبَّ في الله في أحاديث كثيرة يتعجب الإنسان من كثرتها وعمق معانيها ، وعظيم ثوابها، من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (( عن أبي مالك الأشعري أنه قال: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاته أقبل علينا بوجهه. فقال: “يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا. إن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على منازلهم وقربهم من الله”. فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله، ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم ؟!. انعتهم لنا، حلّهم لنا – يعني صفهم لنا، شكلهم لنا – فسُرّ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي، فقال: “هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا. يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيُجلِسَهم عليها، فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. رواه كله الإمام أحمد والطبراني . 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: “إن لله جلساء يوم القيامة عن يمين العرش – وكلتا يدي الله يمين – على منابر من نور، وجوههم من نور، ليسوا بأنبياء، ولا شهداء ولا صديقين”. قيل يا رسول الله من هم؟ قال: “هم المتحابون بجلال الله تبارك وتعالى”. رواه الطبراني. 

وعن أبي سعيد الخدري رضوان الله عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن المتحابين في الله تعالى لَتُرى غرفُهم في الجنة كالكوكب الطالع الشرقي أو الغربي. فيُقال من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابون في الله عز وجل”. رواه أحمد برجال الصحيح. 

وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “حقت محبتي للمتحابين فيَّ، حقت محبتي للمتواصلين فيَّ، حقت محبتي للمتباذلين فيَّ. المتحابون فيَّ على منابر من نور, يغبطهم بمكانتهم النبيون والصديقون والشهداء”. رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم والقضاعي. وفي رواية: “ “المتحابون لجلالي في ظل عرشي يوم لاظل إلا ظلي”. رواه الإمام أحمد والطبراني وإسنادهما جيد عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى. 

لماذا كل هذا الفضل والثواب للحب في الله عز وجل ؟ 

أظن- والله أعلم- لأمرين : 

الأول : النية والقصد فالحب لله ، وفي الله عز وجل ليس أمرا سهلا؛ إنه يطهر القلب من أدران الحسد والحقد والكراهية والتنافس الأعمى ، ويُصفّي القلب خالصا لوجه الله عز وجل، ولذلك نجد الأحاديث تُكرر دائما كلمة : فِيَّ أو (( في الله )) هذه ال (( فِيَّ)) لا يمكن تحققها بأمر سهل ، إنها تتضمن خالص العبودية لله عز وجل ، وكل شيء في دين الله عز وجل- كما نعلم - مرتبط بإخلاص العبودية لله عز وجل (( وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء )) 

وخَلاصُ المحبة للإخوان والأحبة يتفرع عن خلاص المحبة لله عز وجل . 

الثاني: أثر هذه المحبة على حياة الناس أفرادا وأمما وجماعات، فحينما تسود في المجتمع المحبة الخالصة لوجه الله عز وجل ، وطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى تسود المجتمع حالة عظيمة من العافية والتماسك والتكامل والرخاء والتقدم، ونحن نرى الآثار السلبية للحياة الاجتماعية حين تسودها المصالح الشخصية، والأغراض العاجلة، والاهتمامات الدنيوية ، ونرى كيف تصبح الحياة مؤلمة جدا، ومحزنة جدا حين تسيطر عليها الأنانيات الفردية والرغبات العمياء . 

أجل ! إنه الحب في الله عز وجل ، الحب لله جل وعلا، إنه حالة عظيمة من تسامي القصد ، حالة عظيمة من تألق الروح إلى العلياء ، حالة عظيمة من تعالي الهمّة إلى ما فوق السماء ، وينعكس هذا على حياة الناس في دنياهم سعادةً وهناءً، وقد ذاقوا مذقة من نعيم الجنة . 

أسأل الله عز وجل أن يجمعني مع كل أحبتي وأصدقائي في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، وأن يجعلنا متحابِّين في الدنيا لوجهه الكريم ، ويجمعنا في الآخرة في مستقر رحمته وكرمه ورضوانه.

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين. 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين