اللص النذل

وكان من خبر أسرتنا البسيطة أن أخي الأصغر مني مباشرة محموداً التحق بخدمة العَلَم ( العسكرية) عام ١٩٩٧م ، وكان من نصيبه أن فُرز إلى وزارة الداخلية، وكانت دورته التدريبية في قسم الشرطة في القابون على ما أذكر .

ما علينا...

وذات ليلة باردة طرق علينا الباب شاب قصير القامة أسمرُ اللون لا يعرفه منا أحد، ولا ننسبه إلى بيت أو جوار... وقال لأخي الأصغر الذي فتح له الباب: أين أمك؟. قال: لِمَ؟ قال: لديّ رسالة من أخيك العسكري لها... قال : أخي محمود؟ قال : نعم... رجع أخي مبتهجاً؛ فقد مضى عهد لم يهاتفنا فيها محمود، ويخبرنا عن حاله في الجيش... 

ونادى أخي أمي... أنْ بالباب شاب يريد التحدث إليك... فعجب والدي وعجبت : علام تُدعى الأم ولا يُدعى الأب؟ ... لا شك أن الأمر فيه ما فيه . 

خرج أبي وخرجتُ إثره...

- اهلاً بك يا ابني... من انت... وماذا تريد؟

- اهلا عمي... أنت أبو ياسر أليس كذلك؟

- نعم..

- ابنك محمود يسلم عليك... وهو زميلي في الدورة... وقد داهمنا البرد هناك، وهو يريد أن يشتري مِعطفاً( فِلتاً عسكرياً) ... وقد نفدت خرجيته ( المال الذي يزود به العسكري حين يلتحق بقطعته العسكرية).. ثم إن الجوع عضنا بنابه والمسغبة أجلبت علينا بخيلها ورجِلها... وقد جئتُ إجازة.. وطلب منكم محمود خرجية له... لأحملها إليه...

فقال أبي: كم يريد... قال: ٢٥٠٠ ل. س

وكان والدي رحمه الله رحلاً عاقلاً وحكيماً... ولم يَتهم الشابَّ ابتداءً.. لأنه انتسب إلي قبيلة البطوش... وهي قبيلة كريمة... لنا منها أصحاب وجيران... وليس من اللباقة رده واتهامه... وليس أقل من أن يدفع إليه مبلغاً يسيراً... فإن كان صادقا فقد بذلنا له ما يريد ابننا .. وإن كان كاذباً فلتكن صدقة عليه، أو ليس في الحديث تُصُدِّقَ الليلةَ على سارق... على زانية... على غني ؟. 

قال السيد الوالد : معي يا بني ألف ليرة فقط ... سأقسمها بيني وبين ولدي... فخذها وسلِّم لي عليه...

فأخذها الشابُّ وانصرف...

ودلفنا إلى البيت... ولكن تساؤلات عدة قامت في أنفسنا... ورحنا نطرحها على بعضنا : ماذا لو كان الشاب كاذباً... ماذا لو كان محتالاً.. ماذا.. ماذا...

فكان من رأي أبي ان يذهب إلى مضافة القوم الذين انتسب إليهم الشاب... فيسأل عن اسمه ونسبه فيهم... فقلنا : نعم الرأي والمشورة... 

فذهب إلى الجماعة الكرام، وأكرموه غاية الإكرام ونفوا أن يكون من أولادهم من يدعى (م ح الشيخ) ... وأنه محتال محترف... وضال منحرف... فقال الوالد: وهل تعرفونه؟ قالوا؛ لا... ولكنك لست الوحيد الذي احتال عليه... فقد كان له ضحايا كُثُر... 

وتدخل أحد الحضور فقال : منذ يومين او ثلاثة ذهب هذا الأفاك الأثيم الى بيتٍ فقيرٍ التحق أحد أفراده بالجندية... وطلبوا الأم كالعادة.

واستفسر والدي عن سبب طلبهم الأم دون الاب، فقال الشاب: لأن الأم كما نعلم أكثر عاطفة... وأكثر حناناً على فلذة كبدها الذي فارقته قبل أيام، ولا تدري عنه ماذا يأكل؟ وكيف ينام؟ وماذا يعاني في التدريبات والتمارين القتالية...؟. 

تابع الشاب حديثه: فدلفت الأم إلى البيت وأخبرت زوجها بالأمر، فرقَّ هو الآخر، وقال: يا امرأة أخرجي من بين الفُرُش المالَ الذي ادّخرناه، وأعطه لزميل ابنك، فوالله لن ينعم لي طرف بالنوم، أو أستسيغ طعاماً او شراباً وولدنا بحاجة ماسة ... ففعلت... وقالت لزعيم العصابة : مهلاً يا بني كي أعطيك بعض القطايف ( حلويات حلبية تحشى بالجوز أو القشطة ثم تقلى بالزيت ثم تغطس في القطر، وتوزع عادة على الفقراء ليلة النصف من شعبان جرياً على عادة أهل حلب وقراها) لتأكلها أنت وابني هناك، فإنه - الله يحفظو - يحب القطايف جداً...

فأخذها الشاب الدنيء الهمة، الوضيع النفس... وذهب إلى أفراد العصابة، وتقاسموا الغنيمة فيما بينهم... وكان هذا الخبر مسلياً ومعزياً لوالدي رحمه الله...

وبعد مدة ليست باليسيرة ألقي القبض على العصابة... وتم - على ما قيل لنا - تصويرهم في برنامج الشرطة في خدمة الشعب... وكان مما قالوه لعلاء الدين الأيوبي وقد سألهم ماذا كنتم تفعلون بالمال الذي تسرقونه من جيوب الآباء الفقراء؟: كنا نصرفه على الملذات الشخصية.

إن الخطة التي خطرت على ذهن هذه العصابة آنذاك لم تكن لتخطر على بال عصابات شيكاغو الشهيرة أو المافيا العالمية... أن تَتَتَبّع البيوتَ التي يذهب شبابُها لخدمة العَلَم الإلزامية... ثم تحتال على أهليها بالكذب... لتسرق منهم قوت يومهم والباقي من رواتبهم الشهرية... وتتقاسمها مع جلاوِزتك في المغارات وبين القبور... إنها لطريقة لا تلوح لذهن إبليس نفسه... ورحم الله الخبز أرزي القائل :

ولم ينتفع بي غير إبليس وحده * وإن متُّ لم يظهر على غيره فقدي

وكنتُ فتىً من جند إبليس فارتقى * بي الأمر حتى صار إبليس من جندي

فلو مات قبلي كنتُ أُحسن بعده * صنايع فسق ليس يُحسِنُها بعدي

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين