ملامح سور القرآن: سورة الأنبياء

الخَلْق والنبوات والساعة، هذا هو موضوع سورة الأنبياء، فلم يخلق الله الخلق عبثًا ولا لعبًا، ولكن جعل للحساب يومًا، توضع فيه الموازين التي تزن مثقال الذر، وحبة الخردل، وكما بدأ هذا الخلق بالفتق، أي الفصل والتوسعة، يعيده إلى ما كان، فيطويه طي السجل للكتاب، وفي الدنيا يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.

وفي هذه الرحلة منذ بدء الخلق إلى يوم طي بساط الحياة وقيامة الحساب، أرسل الله رسله، وأوحى إلى أنبيائه، رحمة بخلقه، وتعريفًا بحقه، وأنه لا إله إلا هو، لا ولد له ولا ند، وإنذارًا من عذابه، وتبشيرًا بثوابه، فقد أعد للصالحين كرامته، فهم الوارثون للأرض التي هي الفردوس، كما سيأتي في سورة المؤمنون، وكما جاء في سورة الزمر: (الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء).

ومنذ خلق الله البشر، وهو يُحدث لهم النبوة بعد النبوة، ذكرى وتبصرة، ووعدًا ووعيدًا، ولكن شأن أكثر الناس أن يلهوا عما أنذروا به، وأن يكذبوا المرسلين، وأن يردوا قول الناصحين، وأن يبحثوا عن تعلة لتقليل شأنهم، ورد قولهم، فيقولون: هم بشر مثلنا، وما يأتون به سحر، أو شعر، أو افتراء أو أضغاث أحلام، فالغرض هو التكذيب، وما هذه الأوصاف إلا تملص من مواجهة الحقيقة.

وكانت سنة الله أن ينصر رسله، فينجيهم من عدوهم، ومن شاء ممن تبعهم، ويستجيب دعاءهم ويكرمهم، ويهلك هؤلاء الظالمين، ويمضي الرسل إلى ربهم، فما كانوا خالدين، ولا أجسادًا مخالفة لسنة البشر في الحياة.

في قصص الأنبياء في هذه السورة ما يبين أن الله يجمع لأوليائه حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، ولذلك وصفهم إذا جاءت الساعة بأنهم (الذين سبقت لهم منا الحسنى)، وفي هذا تكملة لمعنى نفي الشقاء بسبب الوحي، فها هي رعاية الله مع أنبيائه وأوليائه في خطواتهم ودعواتهم ومناجاتهم، وسنته إنجاء عباده المؤمنين بالوسيلة التي يختارها بحكمته: (وكذلك ننجي المؤمنين)، ولعل حكمته تخفى كما خفيت نون (ننجي) صوتًا ورسمًا.

آتى موسى وهارون الفرقان، وآتى إبراهيم رشده، وقال للنار كوني بردًا وسلامًا، ونجاه ولوطًا إلى الأرض المباركة، ووهب له إسحاق ويعقوب، واستجاب لنوح، وفهَّم سليمان، وسخَّر له الريح والجن، وسخر الجبال والطير يسبحن مع داود، وعلمه صنعة الحديد، واستجاب لأيوب، وكشف ضره، واستجاب ليونس وقد ذهب مغاضبًا، واستجاب لزكريا ووهب له يحيى، وأكرم مريم البتول بآية للعالمين.

فهكذا أكرم الله أولياءه، وهم من عهد آدم أمة واحدة، دينها الإسلام، وربها الله، وسنة الله ماضية، يمتِّع إلى حين، ثم يَحكُم بالحق، وهو خير الحاكمين.

وفي السورة إلماح لطيف إلى معنى الحديث: "العلماء ورثة الأنبياء" بذكر القضية التي عرضت على داود وسليمان، ففهَّمها الله سليمان، وهو الفقه الذي يُفضَّل الله به أقوامًا على أقوام، أو في مسائل دون مسائل، أو في بلدان دون بلدان، أو في أزمان دون أزمان، وهو لا ينفي الحكمة والعلم عن الآخرين، ولكنما يكمل بعضهم فهم بعض. ثم هو إشارة إلى أن التفقه في الدين وحسن الفهم في النوازل والقضايا إنما يستمد أصله من الوحي، ثم يلهم الله من يشاء الصواب والأصوب، وينشرح له صدور المؤمنين، بما يبدو عليه من نور أصله وهو الوحي، ونور التفهيم الإلهي. وفي السورة أيضًا ذكر نقصان الأرض من أطرافها، بذهاب البركة من خيرات الأرض، وأيضًا بذهاب أهل الفقه لدين الله.

وفيها تردد لفظ الذكر مرارًا، كما نبه عليه ابن تيمية -رحمه الله- في فتاواه، بصيغة المصدر تسع مرات، كما في أولها: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون)، ومنها وصف أهل العلم بأهل الذكر: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، ومجموع ورود المادة في السورة مع الصيع الأخرى يصل إلى ثلاث عشرة مرة، وما ذاك إلا لأن النبوات والوحي تذكير للناس بما ينفعهم، وذكر لله، وهو أكبر من كل شيء، وذكر بمعنى علم، وذكر بمعنى شأن ورفعة، وكل ذلك تجمعه النبوة ووراثتها بالعلم.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين