من طفل يتيم إلى أُمّة عظيمُة.. وحضارة مكينَة ..!

خمسة عشر قرناً تفصلنا عن مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبعثته .. وبعد ثلاث سنوات من الدعوة سرّاً دامت بعثته عقدين من الزمن ، نصفها في مكّة ، ونصفها في المدينة .. 

والعقدان في حساب الأمم كعامين في تحقيق التغيير الاجتماعيّ السلميّ .. ومع ذلك فالتغيير الذي حدث في هذين العقدين طال الجزيرة العربيّة بأرجائها .. 

وعندما توفّي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان أتباعه يزيدون عن نصف مليون على الأقلّ ، وينبثّون في أرجاء الجزيرة العربيّة ، من شرقها إلى غربها ، ومن حواضرها إلى بواديها ، بل قامت فيها دولة فتيّة ، تملك كلّ مقوّمات الدولة ، التي تتحفّز لتغيّر التاريخ الإنسانيّ ، وتلعب أعظم دور فيه .. 

فكيف كان هذا التغيير ، الذي لم يعهد مثله في عالم الأسباب ، وسنن التغيير الاجتماعيّ التي يعرفها الناس .؟! 

من طفل يتيم ، وُلد في بيت شرف من بيوتات مكّة ، لم يترك له أبوه مالاً ، ولا شيئاً من نشب الدنيا .. ثمّ فقد أمّه أيضاً في سنوات طفولته الأولى ، فتقلّب في بيت جدّه بعض سني طفولته ، ثمّ بعد وفاة جدّه ، أصبح تحت كنف عمّه .. ثمّ عاش شبابه ، وهو قُلّ من المَال ، ولكنّه غنيّ بشرف بيته ونسبه ، وكرم أخلاقه وفضائله ، التي يعترف بها كلّ قومه .. 

ولم يكن ينقصه شيء من شرف المَكانة ، وعزّة القدر .. ولكنّ ذلك كلّه لم يشفع لرسالته ودعوته أن تنال نصيباً من استجابة قومه ، بل لقي أشدّ التكذيب والعنت من أقرب الناس إليه .. 

لقد أؤذي جسديّاً في بدنه ، ومعنويّاً في سمعته ؛ فوصف بالكذب والجنون ، والسحر والكهانة .. وأؤذي في أهله وأصحابه .. وحوصر هو وعشيرته في شعب عمّه أبي طالب ، وضُيّق عليه وعليهم بسبب دعوته ، التي لم يهدأ في نشرها ، ومنعوا من الطعام والشراب ثلاث سنين ، وهو صابر لله تعالى محتسب ، ثابت على دعوته ، لا يتراجع عن شيء منها ، ويدعو أصحابه إلى الصبر على دينهم ، والثبات على الحقّ حتّى يفصل الله بينهم وبين عدوّهم .. 

حتّى اضطرّ أصحابه بتوجيهه ، إلى الهجرة مرّتين إلى الحبشة فراراً بدينهم من أذى ، قومهم إلى الله .. ثمّ أذن الله له ولأصحابه بالهجرة إلى المدينة بعدما استفحلت أذيّة المشركين ، وتمادوا في عتوّهم وطغيانهم إلى درجة التآمر على قتله صلّى الله عليه وسلّم ، وتبييت الكيد على ذلك ، والملاحقة في طريق هجرته إلى أقصى حدّ .. 

فكانت الهجرة في صورتها هرباً من القتل ، ومحاولة وأد الدعوة في مهدها ، ولكنّها كانت في حقيقتها كسراً لقيود التسلّط الظالم ، وهيمنة الطغيان المُتحكّم ، وفتحاً في عالم المَبادئ والقيم ، واتّصالاً بعالم جديد ، وقوم آخرين .. يهيّئهم القدر ليكونوا محضناً للحقّ ، ملائماً لنشأته وقيامه ، ورسوخه في الأرض واستقراره ، ثمّ انسياحه فيها ، لا يحدّ رحابة نوره وهداه حدود ، ولا قيود .. 

وأمّا الأمّة التي أخرجها للناس ؛ فقد كانت أمّة ميتة قابعة في صحرائها ، خاملة بين الأمم التي حولها ، لا حظّ لها من علم أو حضارة .. فتحوّلت إلى أمّة حيّة فاعلة .. كانت قبائل متنافرة متعادية ، فتحوّلت إلى أمّة متراحمة متعاطفة .. وتحوّلت من أمّة أمّيّة ، تستهين بها الأمم من حولها ، وتسخر منها وتسخّرها ، إلى أمّة تقف موقف الندّ من الندّ من جميع أمم الأرض ، بل تصنع حضارة ربّانيّة ، تغلب بها الحضارت القائمة في أرجاء الأرض ، وتقود الناس بالحقّ والعدل .. 

ولقد أحسن وصف حالها بدقّة متناهية جَعفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه ، أمام النجاشيّ ، وهو يعرّف بهذا الدين ونبيّه ورسالته ، إذ قال له : 

« أَيُّهَا المَلِكُ ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ المَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الجِوَارَ ، يَأْكُلُ القَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْنَا نَبِيًّا وَرَسُولًا مِنَّا ، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الجِوَارِ ، وَالكَفِّ عَنِ المَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنِ الفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ ، وَأَكْلِ مَالِ اليَتِيمِ وَقَذْفِ المُحْصَنَةِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالحَجِّ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ... فَصَدَّقْنَاهُ ، وَآمَنَّا بِهِ ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ .. » . 

وبزغت في المَدينة شمس دولة فتيّة ، كان قوامها فئتين ؛ 

فئة مهاجرة في سبيل الله ، قد باعت نفسها لله تعالى ، فهجرت الوطن في سبيله ، وتركت الأهل والعشيرة ، والمَال والمَتاع ، وبايعت نبيّ الله على نصرة الحقّ حتّى المَمات .. 

وفئة أخرى ، هم أهل المَدينة ، الذين سُمّوا الأنصار ، وقد بايعوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على إيوائه ، ونصرته ، وبذل الغالي والنفيس في الدفاع عن دينه .. وقد صدق جميعهم ما بايعوا الله عليه ، وعاهدوا .. {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23] .

على هؤلاء الرجال قامت دعوة الإسلام الأولى على عين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، وبقيادته وتوجيهه ، وبأيديهم بُنيت دولة الإسلام الأولى .. 

ثمّ جاءت دولة الخلافة الراشدة ، التي كانت امتداداً لدولة النبوّة ، فانتشر الإسلام في أرجاء الأرض ، ودخلت الأمم في دين الله حبّاً وطواعية ، لم يكره أحد على ترك دينه ، لأنّ الأمر بكل وضوح مبدئيّ : أنّ الإكراه في دين الله لا يقام فيه وزن واعتبار لأيّ علم .. كما أنّ امتزاج المسلمين مع أمم الأرض : إنسانيّاً ، واجتماعياً ، وتجاريّاً .. هو أوضح دليل على ذلك .. 

وازدادت أعداد المسلمين بشريّاً كما امتدّ الإسلام جغرافيّاً .. وقامت للإسلام حضارة في شتّى بقاع الأرض ، واكتشف المسلمون علوماً لم تعرفها البشريّة من قبل ؛ علوماً إنسانيّة ، وتجريبيّة ، وعقليّة ... بُنيت عليها حضارتهم ، وعلّموها لغيرهم ، ولم يضنّوا بها على أحد من أعدائهم ومخالفيهم .. والمُنصفون من علماء الغرب اليوم يُقرّون بذلك ويشهدون .. 

وإذا كان لا يروق لبعض الناس ، من أبناء جلدتنا ، المُنهزمين روحيّاً وفكريّاً إلاّ أن يسمعوا قول الآخرين في نبيّهم ، ودينهم وحضارتهم فليسمعوا قول هذا العالم من علماء الغرب : يقول « توماس كارليل » عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتابه " الأبطال وعبادة الأبطال " : « رجل فقير ، ضعيف الموارد ، لم ينشغل بما انشغل به عامّة الناس ، لا يصحّ أن يوصف بالسوء ، لقد كان ما في نفسه شيئاً أسمى من صور الرغبة الشخصيّة ، وإلاّ لمَا لاقى كلّ ذلك الإجلال من أولئك العرب الأجلاف ، فيحاربون ويصارعون طوع أمره ، ثلاثاً وعشرين سنة ، مخلصين له أشدّ الإخلاص ، بعد أن كانوا وحوشاً ، لا تكاد نزاعاتهم تنتهي أو تخمد ، وبعد أن كانوا يحبّون أنفسهم بشراسة ، فلا يقيمون للحقّ ولا لقيمة الإنسان وزناً ، ولم يسلموا قيادهم لرجل قبله ، أتقول : إنّهم سمّوه نبيّاً ؟ لماذا ؟ ألم يقف أمامهم وجهاً لوجه ، مسفراً لا يتقنع وراء أيّ غموض ، يرقع عباءته بيده ، ويصلح نعاله بنفسه ، ألم يمض مجاهداً وناصحاً وآمراً ، وهو في وسطهم ، لابدّ أنّهم أدركوا من أيّ الرجال هو ، فلتسمّه كما تشاء .. فما من إمبراطور بتاج وأبّهة ، لقي من الطاعة مثلما لقي هذا الرجل ، في عباءة كان يرقعها بنفسه ، وخلال فترة تجربته القاسية ، التي دامت ثلاثاً وعشرين سنة ، نجد فيه مثلاً من البطولة الحقيقيّة ، التي كانت ضروريّة لذلك الواقع » . 

ويقول أيضاً في بيان حال العرب ، ومدى تأثير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيهم : « هم قوم يضربون في الصحراء ، لا يؤبه لهم عدّة قرون ، فلمّا جاءهم النبيّ العربيّ أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والعرفان ، وكثروا بعد القلّة ، وعزّوا بعد الذلّة ، ولم يمض قرن حتّى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم » . 

« شهد الأنام بفضله حتّى العدا * * * والفضل ما شهدت به الأعداء » 

والواقعُ المَشهودُ أبلغُ حجّة * * * إلاّ لأعمى لم يُفده دواءُ 

ولقد لخّص المُسلم الألمانيّ د. مراد هوفمان حال الإسلام ومآله بعنوان كتابه : « الإسلام في الألفيّة الثالثة : ديانة في صعود » . وأثبت من خلال بحثه المَوضوعيّ ، ورصده الواقعيّ أنّ الإسلام رغم كلّ حملات التشويه الفكريّ ، والتزييف الإعلاميّ ، والواقع المُزري لأممه وشعوبه فهو في صعود وتألّق ، وزيادة حسّيّة ومعنويّة ، وبخاصّة على مستوى النخب العلميّة والفكريّة . فهل بعد هذا من دليل على أنّ هذا الدين حقّ ، وأنّ من جاء به يتحلّى بأعلى درجات الصدق .؟! 

وبعد ؛ فإنّ نبوّة الأنبياء متشابهة لأنّها تصدر من مشكاة واحدة .. ومن يطعن في نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم ، وهو خير الأنبياء والمُرسلين وخاتمهم ، فقد طعن في جميع الأنبياء قبله ، وكذّبهم .. ولا يصدر ذلك إلاّ من ملحد حاقد ، متخلّف العقل والفكر ، بينه وبين الحضارة كما بين الإنسان البدائيّ والإنسان المُتمدّن .. أو جاهل ، لا يعذر بجهله ، لأنّه في عصر يبثّ فيه العلم ، ويحيط به من جميع أطرافه .. 

إنّ الأمر بأشدّ الاختصار ، لخمسة عشر قرناً مرّت من الزمن : فرد قام وحده ، كان قائد دين ، وباني أمّة ، أصبح أتباعه اليوم يزيدون عن مليار ونصف من البشر ..! 

فحكّموا عقولكم يا أولي الألباب ..!!

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين