تختلف طبقات الناس بحسب ما يُحسنون من صنعة أو مهنة ، ويتفاضلون بقدْر ما يُتقنون من فنون وعلوم ، ويتمايزون نظراً لما يُنتجون من مؤلفات واختراعات ومصنّفات ، ويتنافسون في خدمة الأمم ، وقيام الحضارات ، ومساعدة المجتمعات الانسانية .
ويقضي من يلج باباً من أبواب العلوم والفنون عمره كلّه سهراً وجوعاً وتعباً وذُلاً وتسليماً مطلقاً بصفة ( طالب علم ) لكي يحققَ جزءاً يسيراً ، وينال غرفة من بحر كبير ، أو يحصل على رشفة من الديم ، وهو يمتثل قولاً قديماً ( اعط للعلم كلّك يعطك بعضه )
وهو يسير في هذا الطريق الطويــــل ، ويتسلّق جداراً عالياً ، ويشمّر عن ساقيه في طريق شائك ، ويصعد سلّماً بخطوات محسوبة لا تقبل القفز ، ولا ينطلي فيها الغشّ ، ولا ينفع معها التدليس متّبعاً سَنن السابِقَين ، ومقتفياً آثار المتقدمين
وكلّما ازداد علمه أدرك أنّه بحاجة الى التزوّد من معين لا ينضب ، ومداد بحر لا ينفد ، وسماء لا يُدركها معراج
وفي خضّم هذا المخاض العسير ، والدرب الوعر ، والمسلك الحَزَن ، يتقرر في أعماقه ، ويُنقش على لوح الحقائق عنده لحظة بلحظة ، ولمحة بلمحة أنّ العلم الذي ناله بعد جهد جهيد ، وهمم كالقمم ، وأيام استوحش فيها الناس لقُرب الكتاب والقرطاس ، لا يكفيه ولا يستطيع أن يوفيه ، أو يصل به الى أدنى درجة فيه ، لشخوص { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } ، ولإدراكه ( العلم كلّه في العالم كلّه) ، فتضفي هذه الحقائق وقاراً وتواضعاً ، وللذات إنكاراً ، وعن أعين الظهور استتاراً فلا يجرؤ أن يكتب على اسمه أو يقبل أن يكتب لاسمه وصف علمي ، أو لقب معرفي مهما كانت الأسباب
في الوقت الذي ترمى فيه الأوصاف ، وتخلع فيه الألقاب ، وتعلّق فيه الأنواط ، وتصّدر فيه الكلمات ، وتزيّن فيه الجداريات لمن لا يحسن قراءة عنوان الكتاب فضلاً عن معرفة مؤلفه ، وصحة نسبة الكتاب اليه ، لا أدعي أكثر من ذلك لأنّه يصعب عليه
ألقاب لم يجرؤ أصحاب القدم الراسخة على التلفظ بها فضلاً عن الاتصاف بها ، وهرب أصحاب الهمم العالية خوفاً منها ، ووجل أهل المعرفة من حلول ظلمات فيها رعد وبرق بحملها والتفاخر بها .
غلّقت العلوم أبوابها ، وأرخت الفنون سدولها ، وكثرت القبور التي ضمت صدوراً حوت عظيم المكتوب والمسطور فيها .
آه لزمان تقلّدت فيه الأصاغر أوسمة الأكابر ، ونال الأسافل رتباً لم يدنُ منها الأوائل ، ولبس أزياء العلماء من لا يحسن عدّ الحروف من الالف الى الياء
الفوضى التي تطبق على واقع صارت فيه كظلمات بعضها فوق بعض إذا أُخرجت مئذنة الملوية لم نكد نراها ، ولسان حال العين الباكية والضمائر الشاكية { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ }
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول