فوائد من مجالس السماع والرواية (6)

تظهر أهميّة مجالس السماع والرواية في كونها تحفظ علوم الشريعة من التزييف ، أو التحريف ، أو التبديل ، أو التصحيف ، وقد هيّأ الله مِن علماء الأمة في كل زمان ومكان مَن يعنى بقراءة ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم- من قولٍ، أو فعلٍ، أو تقريرٍ، أو صفة خَلقية أو خُلقيّة، مع ضبط الكلمات، وتحرير الألفاظ، وكيفيّة الرواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ودراسة الرواية وضبطها، ودراسة سندها، ومعرفة حال كلِّ حديثٍ من حيث القبول والردّ، ومعرفة معاني الألفاظِ ، وما يُمكن أن يُستنبَط منه من الأحكامِ والفوائدِ.

مع ما يعرض في هذه المجالس من الفوائد والخواطر ومنها : 

الخاطرة الثامنة عشرة : بين يدَي كتاب : (( اليقين للإمام الحافظ ابن أبي الدنيا ت: 281هـ )) 

عقد شيخنا الدكتور عبد الحكيم محمد الأنيس - حفظه الله - مجلساً لقراءة كتاب: (( اليقين للإمام الحافظ ابن أبي الدنيا ت: 281هـ )) عصر يوم الجمعة : 1/ صفر/ 1442هـ الموافق 2020/9/18م. 

وكان المجلس مُلحة من الملح ، و كأنّ النور منه قدَح ، و فاح المسك منه ونفح ، أجملَ الشيخ فيه وأوضح ، ولو أن الوقت سمح وسنح لازداد القلب إيمانًا وازدان العقل ورجح . 

وقد خطر لي : أنّ اليقين مبحث له في كلّ علم مشاركة ، وفِي كل فنّ مكانة مباركة فضلاً عن كونه من المصطلحات القرآنية والنبوية التي استعلمت بصيغ متعددة ، واشتقاقات مختلقة مع تضمّنها لَمَسات بيانية وتربوية ، وقد أخذ مساحة واسعة ، وأظهر كتاب : (( اليقين للإمام الحافظ ابن أبي الدنيا ت: 281هـ )) جميل صوره ، وجليل مظاهره ، وعظيم مراتبه ، وكريم عطائه .

وقد عُني العلماء بمبحث اليقين في العلوم العقلية والنقلية ، وله مكانةٌ كبيرةٌ في الأصول والفروع والأخلاق .. 

أما في علم العقائد فمُرتَكز الايمان عليه ، ومرجع الزيادة والنقص فيه اليه ، في الوقت الذي لا يطلّع أحدٌ عليه ولا يُحاسب الا إذا جهر بإنكاره والاعتراض عليه . قال أبو بكر الوراق - رحمه الله- : (( اليقين ملاك القلب، وبه كمال الإيمان، وباليقين عُرف الله، وبالعقل عُقل عن الله )) 

وأمّا في علم الفقه وما ينبثق منه فله استعمال واسعٌ وأثر يعرفه المطالع ، كما في فقه العبادات والمعاملات ، والاحوال الشخصية ، والجنايات وغيرها من الأبواب الفقهية . 

وكان جزءاً لا يتجزأ من قاعدة كلّية كبرى ( اليقين لا يزول بالشكّ ) ، ولا يُغفَل عنه في مراعاة مقاصد الشريعة العظمى .

وأمّا فِي علم الأخلاق والتصوف فهو من الكمالات التي يتنافس اليها المتنافسون ، ويتسابق اليها الأوّلون والآخرون ، ويُجاهد في الوصول اليها المخلصون يقول ذو النون المصري - رحمه الله - : (( اليقين هو النَّظرُ إلى الله في كلِّ شيء ، والرُّجوع إليه في كلِّ أمْر ، والاستعانة به في كلِّ حال)) 

ولليقين آثار وثمرات تعود الى دنيا وآخرة المؤمنين المؤمنات ، ولذا كان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم : (( اللهم اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا .. ))

الخاطرة التاسعة عشرة : بين يدَي (( النّفحات العطرية من سيرة خير البرية صلى الله عليه وسلم ، للشيخ نور الدين عتر ت: 1442هـ )) 

عقد شيخنا الحبيب الوفيّ الدكتور عبد الحكيم محمد الأنيس الحلبي البغدادي نزيل دبي - حفظه الله - مجلساً للحديث عن شيخه العلّامة الشيخ نور الدين عتر - رحمه الله تعالى- ، وقراءة رسالته الموجزة النافعة: (( النفحات العطرية من سيرة خير البرية صلى الله عليه وسلم )) بروايتها عنه، مساء الأربعاء 6 /صفر/ 1442هـ الموافق 2020/9/23 م لوفاة الشيخ نور الدين عتر - رحمه الله - 

في أمسية تعزية بوفاة الشيخ ، وساعة تسلية لعائلته وطلّابه وأحبابه وقرّاء مؤلفاته 

أمسية وفاء وعرفان ، وساعة صبر وتسليم لما يصيب بني الانسان 

رثاه بكلمات ذرفت معها العيون لوداعه ، واعتصرت القلوب حزناً على فقده ، وقد وصفه بالعلم والعمل والصلاح والزهد والورع كأنّه من الجيل الذي قال فيه الحقّ { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ } 

ولسان حال المجلس يقول (( إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ لَمَحْزُونُونَ ))

ولا حيلة عن هاذم اللذات ، وهادم العلاقات ، ومفرّق الجماعات { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ }

وقد خطر لي : أنّ قيمة الانسان في هذه الدنيا بما يتركه من انجازات وآثار ، وتختلف القيمة قوةً وضعفاً ، صغراً وكبراً بحسب نوع الانجاز وشكله ، فقد يكون إنجازه لنفسه ، أو لعائلته ، أو لمدينته ، أو لبلده ، أو لأمته ، أو للعالم كله.

والفقيد الشيخ نور الدين عتر - رحمه الله - فارق الدنيا وترك من بعده مآثر معرفية ، ودروساً علمية ، ومشاركات في العلوم النقلية والعقلية ، وألّف في علوم الآلة والجادة وفِي مجالات متعددة قرآنية ، وحديثية ، وفقهية ، وفكرية ، وأدبية ، وقد اعتمدت كتبه ضمن مناهج الدراسات الأولية والعليا في الجامعات والكليات ، وقد اختير كتابه (( إعلام الأنام شرح بلوغ المرام )) للتدريس في كليتنا العريقة التي تدرّس علوم الشريعة والحقيقة - كلية الإمام الأعظم الجامعة - 

حفيقة يمكن أن يقالَ في وصف الفقيد بأنّه ( عالمٌ موسوعيٌ) 

بجهوده العلمية يعطي طلّاب العلم درساً أخيراً ، ويوصل اليهم رسالة تتضمن نصحاً وخيراً ، مفادها أنّ الشرف المحتّم ، والواجب المعظّم ، والدور المكرّم يكمن في العلم دراسةً وتدريساً وتأليفاً وتصنيفاً ، والعمل تربيةً وتزكية وحالاً ظاهراً وباطناً وبذلك يصدق فيه قوله تعالى : { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } فيكون { مِنْ وَرَثَة جَنَّة النَّعِيم } 

اللهم اغفر لآبائنا وأمّهاتنا وأزواجنا وذرياتنا ومشايخنا ومشايخ مشايخنا وللمسلمين والمسلمات من لدن آدم - عليه السلام - الى آخر نَفَس في المخلوقات

الخاطرة العشرون : بين يدَي كتاب (( تفريج الكروب في تعزيل الدروب للعالم الصالح المربي عبدالرحمن بن أبي بكر الصالحي ت: 856هـ )).

عقد شيخنا وأستاذنا ذو العلم النفيس الدكتور عبد الحكيم محمد الأنيس - حفظه الله - مجلساً لقراءة الرسالة المباركة: (( تفريج الكروب في تعزيل الدروب للعالم الصالح المربي عبدالرحمن بن أبي بكر الصالحي ت: 856هـ )).عصر يوم الجمعة 8/صفر/ 1442هـ الموافق 2020/9/25م .

وقد خطر لي : أنّ تنظيم الطرقات سبق حضاري وصورة جميلة تعكس التقدّم المجتمعي 

وقد رسم القرآن لبني آدم خريطة التوازن بين دارَي الدنيا والآخرة فلا تفريط ولا افراط ، ولا تضييع ولا تفويت فلكلّ منهما دروه ومكانته وعمله ، مع عدم إغفال كون الدنيا مزرعة للآخرة ، وسلّماً موصلاً اليها ، ومرحلةً لا بدّ أن يعبرها الى الضفة الأخرى . 

ولذا نبّه القرآن الانسان الى دوره في الدارين :

أما الدار الأولى فبقوله تعالى :* { هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا }* جعلهم معمَّرين فيها ومعمِّرين لها بالبناء ، والغرس ، والحرث ، وحسن الاستغلال وعظيم الاستثمار ، وهذا ما أكده صلى الله عليه وآله وسلم حتى في أصعب الأوقات ، وأحلك الأمور ، وأعقد الأحوال ، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ))

وقصّ علينا القرآن أخبار الأمم السابقة التي طوّرت بنيانها وعمّرت مساكنها الا أنّها لم تستثمرها للآخرة حتى لا تهلك الأمم اللاحقة فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } 

وعمارة الأرض سبق حضاري ، وتقدّم عمراني كما جاء في النص القرآني ، و جاءت نصوص السنّة النبوية مهتمةً بأدقّ التفاصيل التي تضمن العيش الكريم للانسان ، ومنها تنظيم الشوارع والطرقات والعناية بها ترتيباً وتنظيفاً وتعبيداً وتيسيراً وتسهيلاً حسب ما تقتضيه مصالح الناس . 

وهذا ما أظهره الامام عبدالرحمن بن أبي بكر الصالحي ( ت: 856هـ ) في كتابه (( تفريج الكروب في تعزيل الدروب )) وعلى مستويين النظري في مؤلَّفه والتطبيقي في سبب تأليفه 

في الوقت الذي نرى فيه اليوم أنّه قد ساد الخراب ، والدمار ، والفساد كثيراً من البلاد ، وضيّع الثروات والموارد وأتعب العباد 

وأما الدار الثانية فقد لفت القرآن أنظار الناس اليها بقوله تعالى { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } فهي الحياة الكاملة، التي من لوازمها، أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة، وقواهم في غاية الشّدة، لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة، وأن يكون موجوداً فيها كل ما تكمل به الحياة، وتتم به اللذات، من مفرحات القلوب، وشهوات الأبدان، من المآكل، والمشارب، والمناكح، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر 

فحريّ بالناس أن يوازنوا بين مصالحهما ويحسنوا الحساب لهما ، ويضمنوا الافادة منهما ، وينضّموا حياتهم للفوز بهما 

ومن دعائه صلى الله عليه وآله وسلم (( ولَا تَجْعَلِ الدنيا أكبرَ هَمِّنَا ، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا ))

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين