رسالة العلماء

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].

﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾. [آل عمران: 187].

إذا أراد الله بعبد خيراً فقَّهه في الدين وألهمه رشده. رواه البزار والطبراني في الكبير.

العلم علمان: علم في القلب فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان فذاك حجة الله على ابن آدم. رواه الخطيب في تاريخه وابن عبد البر عن الحسن مرسلاً.

من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة (يعني ريحها) رواه أبو داود وابن ماجه.

ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار. رواه ابن ماجه.

مثل الذي يعلم الناس الخير وينس نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه. رواه الطبراني في الكبير.

إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن اتخوف عليكم منافقاً عالم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون. رواه الطبراني في الصغير والأوسط.

صنفان إذا صلحا صلح الناس: الأمراء والفقهاء «الأصمعي».

قيل للشعبي: أفتني أيها العالم! فقال: إنما العالم من اتقى الله!

لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا من دنياهم فهانوا على أهلها. «عبد الله بن مسعود».

العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلب كما يزل الماء عن الصفا، «مالك بن دينار».

كان العلماء ربيع الناس، إذا رآهم المريض لم يسره أن يكون صحيحاً، وإذا نظر إليهم الفقير لم يود أن يكون غنياً، وقد صاروا اليوم فتنة للناس. «الفضيل بن عياض».

لأن نطلب الدنيا بأقبح مما تطلب الآخرة، خير من ان تطلبها بأحسن مما تطلب به الآخرة. «محمد بن واسع».

إن من شيوخي من استسقى بهم المطر، ولا أقبل حديثهم (أي لغفلتهم يأخذون عن الكذابين). «مالك بن أنس».

سئل المغيرة بن شعبة عن عمر بن الخطاب فقال: كان والله أفضل من أن يُخدع، وأعقل من أن يَخدع، وهو القائل: لست بخب والخب لا يخدعني!

سئل خالد بن صفوان عن الحسن البصري، فقال: كان أشبه الناس علانية بسريرة، وسريرة بعلانية، وآخذ الناس لنفسه بما يأمر به غيره، يا له من رجل استغنى عما في أيدي الناس من دنياهم، واحتاجوا إلى ما في يديه من دينهم.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل لأبيه: أي رجل كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له! فقال له: يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف، أو عنهما من عوض؟

هذه كلمات من كتاب الله وحديث رسوله والسلف الصالح، تحدِّد مهمة العالم ورسالته وأخلاقه، وما ينبغي أن يكون عليه بينه وبين الله، وبينه وبين الناس.

رسالة العالم وخلقه:

ونستطيع أن نوجز القول في رسالة العالم بأنها: فهم الشريعة وتفهيمها، وحفظها على الناس من تحريف المبطلين وعدوان الظالمين.

ونستطيع أن نوجز القول في خلق العالم بأنه: خشية من الله، وإشفاق على الناس، ونصح لأولي الأمر، ووقوف في وجوه الطغاة، وتجرُّد عن حظوظ النفس وشهواتها، ويقظة في مداخل الأمور ومخارجها، واستهانة بالأخطار في سبيل الله عز وجل.

ولقد كان سلفنا الصالح منذ عصر الصحابة والتابعين فمن بعدهم، تغلب في علمائهم هذه الصفات، فكانوا مبعث خير، ومصابيح هداية، وأدلة طريق، كانوا كما قال أحمد في الشافعي: «كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن»، وما بلغوا هذا المبلغ في أمتهم إلا لأنهم كانوا كما قال خالد بن صفوان في الحسن البصري: «أشبه الناس علانية بسريرة، وسريرة بعلانية».

والمسلمون لا يفتقدون علماءهم كما يفتقدونهم في حالتين: جهل بالدين، وعدوان عليه، فإذا كان الجهل كانوا ألسنة الحق التي تكشف الشبهات، وتزيح المفتريات، وإذا كان العدوان كانوا ألسنة الصدق التي تضع الأمور في مواضعها، فلا ضعيف يُظلم، ولا فقير يُهان، ولا شعب يُضطهد، ولا طاغية يتألَّه، ثم كانوا من وراء ذلك الحكمة التي ترد للمجنون عقله، والقوة التي تكبح في الطاغية طيشه، وبذلك كانوا: كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس.

أما وقد تحدثنا عن مختلف مظاهر الضعف في أخلاقنا الاجتماعية، فقد وجب أن نمسَّ برفق وحذر، أخلاق علمائنا في العصر الحاضر، وموقفهم من أرزاء المجتمع ومشكلاته، وصفاتهم التي تقربهم أو تبعدهم عن أخلاق صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وأخلاق صحابته وعلماء الصدق والتقى في تاريخ الإسلام.

أصناف العلماء: 

قد لا نخطئ الصواب حين تصنف علماءنا اليوم إلى خمسة أصناف:

الصنف الأول: 

علماء أبرار أتقياء، مخلصون لله في عبادتهم وعلمهم، ولكنهم منعزلون عن الدنيا، لا يعرفون من مشاكل المسلمين قليلاً ولا كثيراً، وتراهم أشبه ما يكونون بعلماء الإسلام في المئات الأخيرة من السنين، حين غلب عليهم التصوف السلبي الانعزالي، فإذا هم يرون النجاة والقرب من الله، في البعد عن الدنيا وعن أهلها وعن أحداثها، وهذا ما أدى بالمسلمين إلى أن يقعوا فريسة للطغاة والظالمين في تلك العصور، إذ ترك هؤلاء العلماء مهمة الدفاع عن حقوق المسلمين وكرامتهم وعقيدتهم، فعاث الطغاة فساداً دون أن يجدوا من يذكرهم بالحق، ويردهم إلى الخير، ويخوفهم نقمة الشعب إن لجُّوا في العدوان المبين، كذلك فعل أسلافهم من قبل، وكذلك هم يفعلون اليوم، ولا أدري هل يذكرون في عزلتهم ما أوجب الله على العلماء من النصح والتعليم والهداية والذب عن حرمات الله؟ أم يتأولون ذلك كله على ضوء بعض الأحاديث التي تحث على العزلة، وما لأكثرها أصل في السنَّة، ولظاهر الصحيح تأويلٌ يتفق مع مبادئ الشريعة وقواعدها، ولست أدري كيف يفعلون بقول الله عز وجل: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104.].

ولمن يركون القيام بهذا العبء إن هم سمحوا لأنفسهم أن يتخلوا عنه؟ وهل تراهم نسوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» رواه أحمد والطبراني وابن ماجه.

إن القيام بالنصيحة والتعليم والدفاع عن الإسلام هو أفضل عند الله من نوافل العيادة.. 

ولقد فهم المسلمون الأول هذا على حقيقته، فما استباحوا لأنفسهم أن ينقطعوا عن الناس إلى العبادة مع كثرة الخير وقلة الشر في عصورهم، فكيف في عصرنا هذا؟ قال شهاب بن عبد الله الخولاني: خرج سعد – وكان من أصحاب يعلى بن أمية – حتى قدم على عمر في المدينة، فقال: أين تريد؟ فقال: الجهاد، فقال له عمر: «ارجع فإن عملاً بالحق جهادٌ حسن» أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال: 597.

فهذا قول عمر في عالم يخرج للجهاد فكيف بمن يعتزل الناس، ويؤثر العافية على البلاء، والسكينة على الجهاد، والسكوت على النصيحة؟ ... وما كان عمر بالذي يرى العمل بالحق خيراً من الجهاد لولا أنه علم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهمه من فقه تشريعه، قال أبو هريرة: «غزونا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب في عُيينة طيبة الماء غزيرة، فقال واحد منا: لو اعتزلت الناس في هذا الشعب! ولن أفعل ذلك حتى أذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له: لا تفعل، فإنَّ مقام أحدكم في سبيل الله خير من صلاته في أهله سبعين عاماً» رواه الترمذي والحاكم.

الصنف الثاني:

أوفياء للإسلام يغارون عليه، ولكنهم طيبو القلوب، حسنو النية، يمنحون صبغة «التدين» لكل من يتقرب إليهم بتقبيل يد أو طلب دعوة او حضور مجلس ذكر، وكم رأينا من استطاع خداع هذا الفريق المخلص من علمائنا، فأوصلوه إلى مقاعد الحكم وندوة النيابة، ودعوا إلى تأييده في الانتخابات، وخطبوا له في المساجد، وهتفوا باسمه في المجالس، وأوسعوا له المديح فيما يكتبون ويتحدثون.. وهو من أشد الناس بعداً عن الإسلام وأخلاقه، وأكثرهم ميلاً إلى خصومه وأعدائه، ولقد كان قليلٌ من الحذر واليقظة لدى هذا النفر من العلماء كافياً لأن يجنِّب المجتمع سيطرة أمثال أولئك المخادعين المتاجرين بالدين.. ولكن أنَّى لهم ذلك وهم قوم تغرهم المظاهر، ويخدعهم تقبيل الأيدي وانحناء الظهور والتماس البركات؟ 

وأشد ما يؤلم النفس أن تراهم وهم يحوطون هؤلاء المخادعين المتاجرين بالإسلام بالحب والتأييد، لا يألون جهداً في مهاجمة المصلحين، وتأليب الجماهير عليهم، وتخذيل الناس عن تأييدهم، ولا يتورعون أن يصفوهم بالمروق وقلة الدين والاستغلال! إي والله... المتاجرون بالدين هم أهل الدين والتقوى عند هؤلاء! والمنافحون عنه والمتحملون عداوة الأشرار والملحدين في سبيله، هم أهل الاستغلال والمروق والإلحاد!، ووالله ما نظلم القوم فيما تتحدث عنهم: ﴿وما شهدنا إلا بما علمنا﴾ وأن ضحاياهم من دعاة الإصلاح ما يزالون أحياء يرزقون، ومن أركبوهم فوق ظهور الناس لا يزالون فجاراً يعبثون، ويرحم الله عمر الذي كان يقول: «لست بخب والخب لا يخدعني» وإذا كان مالك يقول: «إنَّ من شيوخي من أستسقي بهم المطر، ولكني لا أقبل أحاديثهم» لغفلتهم وانخداعهم بالناس، فهل ترى من مصلحة الإسلام والمسلمين أن يفسح لأمثال هؤلاء أن يسهموا في قيادة الجماهير، أو يتدخلوا في السياسة، او يوجِّهوا أمور الدولة؟! لقد كنا ننكر على من يقول ذلك ونعتبره حرباً على الإسلام والمسلمين.. أما الآن فاللهم لا! اللهم لا!

الصنف الثالث:

علماء غيورون على الدين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكنهم يغفلون عن روح الشريعة ورسالتها الاجتماعية، إنك لتراهم يعنون بالصلاة والصيام وشعائر الدين دون غيرها من مقاصد الشريعة، وهم لا يهتمون بها على أنها مدرسة لتعليم الناس وتهذيب أخلاقهم واستقامة سيرتهم كما يتحدث القرآن عنها: ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]، ولكنما يعنون بها كما تقع من الناس اليوم: طقوساً باهتة لا تهذب خلقاً، ولا تطهر روحاً، ومن أجل ذلك تراهم يرضون عن الرجل يصلي معهم في المساجد، ويسرع إلى إجابة النداء، وهو آكلٌ للربا، ظالم للناس، معتد على أموالهم، مستغل لجهودهم، أنهم يرضون عنه كل الرضى إذ يرونه صائماً يعظم العلماء.. وهو سفاك هتاك للأعراض والحرمات.. كأنَّ هذه الصلاة يريدها الإسلام ستاراً للخداع والتضليل، أو كفارة عن الجرائم الاجتماعية الكبرى.. 

إنهم يغفلون عن حديث يرددونه في حلقاتهم العلمية كثيراً، حديث تلك المرأة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تقوم الليل وتصوم النهار ولكنها تؤذي جيرانها! فقال صلى الله عليه وسلم: «هي في النار» رواه أحمد والحاكم، وينسون ما يرددونه في خطبهم ومجالسهم من «أن امرأة دخلت النار فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا فلَا هي أَطْعَمْتها، وَلَا هي تركتهَا تَأكل مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» رواه البخاري وغيره.

ومن العجيب أن غيرتهم على الدين تحملهم على إنكار المنكرات الفردية التي تقع من بعض الناس، فينكرون على من يلبس الخاتم من الذهب – وهو حرام في الشريعة – ولا ينكرون على الحاكم الذي يرتشي، والغني الذي لا يزكي، والنائب الذي لا يبالي بكرامة الشعب وصيانة حقوقه، ولو سألتهم وهم العلماء بالشريعة: أيهم أعظم إثماً عند الله: من يرتكب معصية التختم بالذهب؟ أم معصية الذي يأكل الحقوق، ويخون الشعب، ويظلم عماله وفلاحيه؟ لما حاروا جواباً ولما وجدوا بداً من الاعتراف بأنَّ الآثام الاجتماعيَّة التي تتعلق بحقوق الشعب أكبر جريمة عند الله من الآثام الفرديَّة التي لا تؤذي إلا صاحبها.

وهؤلاء مع اهتمامهم بالحقير الصغير، وغفلتهم عن العظيم الخطير من شؤون الأمة، جامدون في فهم نصوص الشريعة، يستمدون أحكامها من كتب المتأخرين، على أنها شريعة أنزلها الله لا يجوز البحث فيها أو العدول عنها، ولو تغير العرف وتبدلت المصلحة، وأصبحت دنيا الناس اليوم غير دنياهم بالأمس! 

وإذا طلبت إليهم أن يعملوا عقولهم وفقههم في نصوص المتأخرين على ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها العامة، ولَّوا عنك وجوههم وهم يصرخون: أنت رجل تريدنا على أن نجتهد؟ لقد أغلق باب الاجتهاد! وما نحن بالذين نريدهم على أن يكونوا مجتهدين كأبي حنيفة والشافعي، ولكنما نريدهم فقهاء بشريعة الله فاهمين لمقاصدها، لا حفّاظاً للفروع الفقهية من غير نظر وتدبر، نريدهم أن يعيشوا في زمنهم لا في زمن الماضين، وأن يفهموا عادات قومهم وبلادهم لا عادات الغابرين الأقدمين، وهم يعلمون قبل غيرهم أنَّ الأحكام المبنية على عرف تتغير إذا تغير العرف، وأن كثيراً من أحكام الفقه نصوص اجتهادية استنبطها الفقهاء على ضوء الأعراف والعادات القائمة، وهم كانوا يعلموننا في حلقات دروسهم «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان» وأن كثيراً من وجوه الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه مثلًا وهم في عصر واحد، فكيف لا يكون ذلك بيننا وبين الفقهاء الذين باعدهم الزمن عنا مئات من السنين؟..

وأشد هؤلاء غفلة وأقتلهم جموداً، من يحرصون على السنن والمندوبات، ولا يبالون بالفرائض والمحرمات، فلا همَّ لهم حين يجتمعون إلى الشباب إلا أن ينكروا عليهم حلق لحاهم وكشف رؤوسهم وتصفيف شعورهم، قبل أن يهتمُّوا بحفظ عقائدهم وصيانة إيمانهم، وإذا ساق القدر إليهم شاباً ذا نزعة دينية كان أول ما يحملونه عليه أن يطلق لحيته، ويعفِّر شعره، ويعتزل الناس، وينصرف إلى المساجد، ويكثر من الأذكار والأوراد، وأنا لا أنكر أن اللحية ودخول المساجد وذكر الله من آداب الإسلام وسننه، ولكني أنكر أن نقتلع شبابنا من عصرهم الذي يعيشون فيه، لنغرسهم مع الموتى قبل مئات السنين! إن عصرنا الذي نعيش فيه عصر حركة وعمل وتطور عجيب سريع، فلا يتحمل منا هذه البلادة المتزمتة، ولا هذه الروحانية السلبية، ولن يحتمل الشباب هذا الجو مهما استجابوا له أول الأمر، ولا بد من أن يغلبهم الزمن ويجرفهم التيار، فإذا لم نهيئهم له كانت النكسة شديدة، والردة قاسية مؤذية.. وقد شاهدنا هذا فيما رأيناه من بعض الشباب الذين انجرفوا في تيار الروحانية المتبلدة السلبية، فإذا هم بعد حين من أفجر الشباب وأشدهم كرهاً لتعاليم الإسلام وأدبه الراقي الكريم!

الصنف الرابع:

علماء فجار أشرار، يتكسبون بالدين، ويتاجرون بالشريعة، ويتقربون إلى كل فاجر وطاغية وظالم وسارق بالتأييد والدعاء... وكم ابتلي الإسلام بأمثال هؤلاء! وكم كانوا عليه نكبة في تاريخه القديم والحديث! أوما بلغك عن شيخ الأزهر الذي أفتى بكفر الإخوان المسلمين وإخراجهم من حظيرة الدين؟ أوما بلغك عنه أنه أيَّد إلغاء المحاكم الشرعية وذهب إلى الطاغية يهنؤه على هذه الخطوة التقدمية؟ أوما رأيت كيف يسارع بإصدار الفتاوى إلى الطغاة بمهاجمة خصومهم من دعاة الإسلام والحق والفضيلة، بينما هو يسكت عن جرائم التحلل الأخلاقي الذي ينشره الظالمون، وعن مهاجمة الإسلام والأزهر – الأزهر الذي يأكل شيخه باسمه ويعيش من ورائه – ذلك لأنه فيما يهاجم وفيما يسكت، إنما يتوخى رضا الحاكم المستبد ويخشى غضبه وسطوته؟ فأية قيمة لعلم يَلعن صاحبَه في الدنيا ويورده في الآخرة عذاب الجحيم؟ أية قيمة لعلم يجعل صاحبه كالحذاء في رجل الحاكم الظالم يلبسه متى يشاء ويخلعه متى يشاء؟ أية قيمة لعلم يأكل به صاحبه دينه قبل أن يأكل دين الشعب، ويدوس به كرامته قبل أن يسمح للطغاة أن يدوسوا كرامة الناس؟

يرحم الله محمد بن واسع ما أعظم فقهه في دين الله حين كان يقول: «لأن تطلب الدنيا بأقبح مما تطلب الآخرة، خير من أن تطلبها بأحسن مما تطلب به الآخرة!» إي والله! لذلك الفاسق الفاجر الذي يرتكب كل معصية لتكون له الأموال واللذات.. أقرب إلى الله من ذلك العالم الفاجر الذي يمشي في ركاب الطغاة، ويمرغ وجهه على أعتاب الظالمين، ليضمن رئاسة أو جاهاً، أو ليتأثَّل مالاً أو متاعاً.. وفي بعض الآثار: إن الزبانية لأسرع إلى فساق حملة القرآن منهم إلى عبدة الأوثان، فيشتكون إلى الله، فيقول: ليس من علم كمن لم يعلم!

وليست جريمة هؤلاء في أنهم يأكلون الدنيا بالدين، ويغضُّون عن جرائم الظالمين بالرئاسة أو الوزارة أو الوظيفة، ويرقصون على جثث إخوانهم من دعاة الإسلام، وينعمون على حساب بؤسهم وتشردهم واضطهادهم، كما يقول المثل العربي «نَعِم كلبٌ ببؤس أهله».. ليست جريمة هؤلاء في هذا فحسب، بل الجريمة في رأينا أنهم خانوا الله ورسوله وأمانة المسلمين، خانوا أمانة الأمَّة فباركوا اللص وقد كان من حقها عليهم أن يمسكوه متلبساً بالجريمة ثم لا يفلتوه إلا بالعقاب أو المتاب! وأيدوا «الجزار» وقد كان من حقها عليهم أن يثوروا في وجهه ليحملوه على الاستقامة أو يسلموه إلى الهزيمة، فإن لم تكن في أعصابهم ليحملوه على الاستقامة أو يسلموه إلى الهزيمة، فإن لم تكن في أعصابهم دماء الثائرين، فلتكن في نفوسهم عزة الرجال حين يرادون على الضيم فيقولون: «لا» فإن فقدوا في أعصابهم جرأة الأبطال، وفي نفوسهم كرامة الرجال، فهلا حياء كحياء النساء المصونات ينأين بسمعتهن عن معاشرة الدُّعَّار ونظرات الأشرار؟!

وحين يخون هؤلاء – وهم يلبسون لباس الدين – أمانة الشعب، ويتعاونون مع جزَّاريه ولصوصه، يكونون أسوأ دعاية للدين في أوساط الملحدين، وأكبر عامل على يأس الناس من دينهم وتحولهم إلى عقيدة أخرى تنقذهم من الظلم والعبودية.. فماذا ينفع الدين بعدئذ أن يدعو هؤلاء إليه ويسخروا أقلامهم لنصرته ولو كانت لهم فصاحة سحبان، وعلم أبي حنيفة، وأدب ابن المقفع؟! ومن الذي يصدقهم بعد ذلك في الإيمان بما يقولون وما يدَّعون، وأعمالهم كانت تكذبهم وتستنزل عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؟

الصنف الخامس:

علماء مصلحون يفهمون الشريعة على أنها نظام للمجتمع، وإسعاد للناس، وتحرير للجماهير، وهؤلاء على ندرتهم يُقاوَمون من الأصناف الأربعة السابقة من العلماء، كما يُقاومون من أعداء الإسلام ودعاة الإباحة، بل إن الحرب الذي يشنه أولئك العلماء على هؤلاء المصلحين أشد وانكى وأضر بالإسلام والمسلمين من حرب الملحدين والمتحللين، ولقد رأينا بأعيننا كيف تشن عليهم الحملات الظالمة من فريق المتزمّتين والمعتزلين والمتَّجرين بالدين وأعوان الظلمة والطغاة، بما يوهن الصف الإسلامي، ويفتح فيه الثغرات لأعداء الإسلام وأعداء الشعب على السواء.

إن في سجون مصر الآن علماء يقطعون الأحجار، ويلبسون ثياب المجرمين، ويعاملون بالزراية والمهانة، لأنهم فهموا العلم جهاداً وتضحية وتعباً ومعاملة مع الله تعالى، فإذا رأوا المنكر أنكروه، وإذا التقوا مع الجاهل نصحوه، وإذا ابتلوا بالظالم وقفوا في وجهه ليردوه ويهدوه، وإذا كانوا مع مستغلي الشعب من أغنياء وزعماء ورجال أحزاب، واجهوهم بالحق الذي جعله الله أمانة في أعناق الذين أوتوا العلم، هذه هي جريمتهم التي زجُّوا من أجلها بالسجون، وقيِّدت أرجلهم بالحديد، وسيقوا إلى مقالع الأحجار كما يساق القتلة واللصوص والأشرار والمجرمون! ويا ليتهم سلموا من ألسنة إخوانهم من علماء الدنيا الذين سخرهم الطغيان ليخدعوا الناس باسم الدين، فإذا هم أداة تخدير للشعب، وزراية بالعلماء المصلحين، وتمجيد للفسقة والمغتصبين.

لقد كان ما يلقاه أولئك المصلحون المُعذَّبون ممن يتَّسم بسمة العلم، أشد مما يلقونه من ألسنة الجاهلين وسياط السفاحين!

وهؤلاء العلماء المصلحون غرباء عن مجتمعهم، غرباء عن جماعتهم، غرباء عن حكامهم ورؤسائهم، يحملون من هموم الشعب ما لا يحمله رجال السياسة مجتمعين، ويعيشون في أوساط الشعب عيشة تشبه عيشة الأنبياء والقديسين، فهل سلمت لهم بعد ذلك أعراضهم وكراماتهم، هل سلم دينهم من تحامل المتطفلين على الدين الآكلين به؟ هل سلمت سيرتهم من تشويه الأقلام المستأجرة من كتاب وصحفيين؟ هل سلمت حياتهم من التهديد بالقتل والاغتيال والسجن والتشريد من قبل الطغاة أو الساسة المتحكمين؟

هؤلاء على قلتهم ومحنتهم والعداوات التي تحيط بهم، هم وحدهم الأمل المرتجى لنهضة الأمة وتحررها وانعتاقها من الفوضى والجهل والخمول والاستغلال والاستعباد.. هؤلاء هم الذين يعيشون في مجتمعنا: كالروح للجسم، والهواء للرئتين، و«الشمس للدنيا، والعافية للناس».

وبعد، فإلى العلماء والطلاب أسوق هذه النماذج من العظمة الخالدة لعلمائنا عسى أن تكون لنا فيها العظة والأسوة:

1- شهد الفضل بن الربيع وزير الرشيد عند أبي يوسف القاضي فلم يقبل شهادته، فعاتبه الخليفة في ذلك وقال له: لِمَ رددت شهادته؟ قال أبو يوسف: لأني سمعته يوماً يقول للخليفة: أنا عبدك، فإن كان صادقاً فلا شهادة للعبد، وإن كان كاذباً فلا شهادة للكاذب، وإذا لم يبال في مجلسك بالكذب، فلا يبالي مجلسي، فعذره الخليفة.

2- دخل عمرو بن عبيد على المنصور، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل يقفك ويسائلك عن مثقال ذرة من الخير والشر، وإنَّ الأمَّة خصماؤك يوم القيامة، وإن الله عز وجل لا يرضى منك إلا بما ترضاه لنفسك، ألا وإنك لا ترضى لنفسك إلا بأن يُعدل عليك، وإن الله عز وجل لا يرضى منك إلا بأن تعدل على الرعية، يا أمير المؤمنين: إن وراء بابك نيراناً تتأجج من الجور، واللهِ ما يُحكم وراء بابك بكتاب الله ولا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فبكى المنصور، فقال سليمان بن مجالد وهو واقف على رأس المنصور: يا عمرو! قد شققت على أمير المؤمنين! فقال عمرو: يا أمير المؤمنين: من هذا؟ قال: أخوك سليمان بن مجالد، فقال له عمرو: ويلك يا سليمان! إن أمير المؤمنين يموت، وإن كل ما تراه يفقد، وإنك جيفة غداً بالفناء، لا ينفعك إلا عمل صالح قدمته، ولَقربُ هذا الجدار أنفع لأمير المؤمنين من قربك، إذ كنت تطوي عنه النصيحة وتنهي من ينصحه، يا أمير المؤمنين: إن هؤلاء اتخذوك سلَّماً إلى شهواتهم، قال المنصور: فأصنع ماذا؟ ادع لي أصحابك أولِّهم، قال عمرو: ادعهم أنت بعمل صالح تحدثه، ومُرْ بهذا الخناق فليرفع عن أعناق الناس، واستعمل في اليوم الواحد عمَّالاً كلما رابك منهم ريب أو أنكرت على رجل عزلته ووليت غيره، فوالله لئن لم تقبل منهم إلا العدل، ليتقربن به إليك من لا نية له فيه.

3- قال عمر بن حبيب القاضي: حضرت مجلس الرشيد يوماً، فجرت مسألة فتنازعها الخصوم وعلت الأصوات فيها، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فدفع بعضهم الحديث، وزادت المدافعة والخصام، حتى قال قائلون منهم: أبو هريرة متَّهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه! ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليّ الرشيد نظر مغضب! وانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث أن جاءني غلام فقال: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنَّط وكفَّن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلِّمني منه، وأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي، حاسر عن ذراعيه، بيده السيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال: يا عمر بن حبيب، ما تلقَّاني أحد من الدفع والرد لقولي بمثل ما تلقيتني به وتجرَّأت علي! فقلت: يا أمير المؤمنين! إن الذي قلتَه ووافقتَ عليه وملتَ إليه وجادلتَ عنه، إزراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به، فإنه إذا كان أصحابه ورواة حديثه كذابين، فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والحدود مردودة غير مقبولة، فالله الله يا أمير المؤمنين أن تظن ذلك أو تصغي إليه، وانت أولى أن تغار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم! فلما سمع كلامي رجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله! أحييتني أحياك الله! أحييتني أحياك الله!

4- كان لسعيد بن المسيب الإمام التابعي الجليل رأي في عدم جواز البيعة بولاية العهد لاثنين معاً، وأراد عبد الملك أن يأخذ البيعة لولديه: الوليد وسليمان، فطلب إلى ولاة الأمصار أن يأخذوا البيعة لهما، فكتب إليه والي المدينة بأن أهلها قد أطبقوا على البيعة إلا سعيد بن المسيب، فكتب إليه عبد الملك أن يعرض ابن المسيب على السيف، فإن أصرَّ على رأيه فليجلده خمسين جلدة، وليطف به أسواق المدينة، فلما قدم الكتاب على الوالي دخل سليمان بن يسار وعروة بين الزبير وسالم بن عبد الله على سعيد بن المسيب، وقالوا له: جئناك في أمر، قد قدم كتاب عبد الملك إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً فأعطنا إحداهن، فإن الوالي قد قبل منك أن يُقرأ عليك الكتاب فلا تقول «لا» ولا «نعم».

قال سعيد: يقول الناس بايع سعيد بن المسيب! ما أنا بفاعل! وكان إذا قال: لا، لم يستطيعوا أن يقولوا: نعم، قالوا: فتجلس في بيتك ولا تخرج إلى الصلاة أياماً فإنه يقبل منك إذا طلبك في مجلس فلم يجدك، قال سعيد: فأنا أسمع الأذان فوق أذني حي على الصلاة وحي على الفلاح؟ ما أنا بفاعل! قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره فإنه يرسل إلى مجلسك فإن لم يجدك أمسك عنك، قال سعيد: أفَرَقاً من مخلوق؟ ما أنا بمتقدم شبراً ولا متأخر! فخرجوا وخرج إلى صلاة الظهر فجلس في مجلسه الذي كان يجلس فيه، فلما صلى الوالي بعث إليه فأتي به، فقال: إنَّ أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك، فقال سعيد، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين، فلما رآه لم يجب، عرضه على السيف ومدت عنقه للضرب، فلما رآه الوالي مصرًّا على امتناعه أمر به فجرد من ثيابه فإذا عليه ثياب من شعر! فضربه خمسين سوطاً ثم طاف به أسواق المدينة!

5- أتت امرأة يوماً شريك بن عبد الله قاضي الكوفة وهو في مجلس الحكم، فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي! قال: من ظلمك؟ قالت: الأمير (أمير الكوفة) موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، وقصت عليه شكاتها، في أنه انتزع منها بستانها بعد أن عرض عليها بيعة فرفضت، فأرسل القاضي غلامه بكتاب منه يستدعيه إلى مجلس القضاء، فاستدعى الأمير صاحب الشرطة وقال له: امض إلى شريك وقل: يا سبحان الله ما رأيت أعجب من أمرك! امرأة ادَّعت دعوى لم تصح أعديتها علي؟ فقال صاحب الشرطة للأمير: إن رأى الأمير أن يعفيني من ذلك! فقال: امض ويلك! فخرج وقال لغلمانه: اذهبوا وأدخلوا لي إلى حبس القاضي بساطاً وفراشاً وما تدعو الحاجة إليه، ثم مضى إلى شريك، فلما وقف بين يديه أدى الرسالة، فقال القاضي لغلام المجلس: خذ بيده (أي بيد رئيس الشرطة) فضعه في الحبس، فقال صاحب الشرطة: والله قد علمت أنك تحبسني فقدَّمت ما أحتاج إليه إلى الحبس، وبلغ موسى بن عيسى الخبر، فوجَّه الحاجب إليه وقال له: رسول أدى رسالة، أي شيء عليه حتى تحبسه؟ فقال شريك: اذهبوا به إلى رفيقه إلى الحبس فحبس، فلما صلى الأمير موسى العصر، بعث إلى جماعة من وجوه الكوفة من أصدقاء القاضي وقال لهم: امضوا إلى القاضي وأبلغوه السلام وأعلموه أنه استخف بي، وأني لست كالعامة، فمضوا إليه وهو جالس في مسجده بعد صلاة العصر، فأبلغوه الرسالة، فلما انتهوا من كلامهم، قال: مَن ههنا من فتيان الحي؟ فأجابه جماعة من الفتيان، فقال: ليأخذ كل واحد منكم بيد رجل فيذهب به إلى الحبس، ما أنتم إلا فتنة، وجزاؤكم الحبس! قالوا له: أجادٌّ أنت؟.. قال: حقًّا حتى لا تعودوا برسالة ظالم، فحبسهم، فركب موسى بن عيسى في الليل إلى باب السجن، وفتح الباب وأخرجهم كلهم، فلما كان الغد وجلس شريك للقضاء، جاءه السجَّان فأخبره، فكتب إلى الوالي كتاباً وقال لغلامه: إلحق بثقلي (متاعي) إلى بغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر منهم ولكن أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا فيه الإعزاز إذ تقلدناه لهم، وخرج نحو قنطرة الكوفة إلى بغداد، وبلغ الخبر إلى موسى بن عيسى فركب في موكبه ولحقه وجعل يناشده الله ويقول: يا أبا عبد الله! تثبت! أنظر! إخوانك تحبسهم! دع أعواني! قال: نعم لأنهم مشوا لك في أمر لم يجز لهم المشي فيه، ولست ببارح أو يردوا جميعاً إلى الحبس، وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين المهدي فأستعفيه ممَّا قلدني، فأمر موسى بردهم جميعاً إلى الحبس وهو واقف مكانه، حتى جاءه السجان فأخبره برجوعهم جميعاً إلى السجن، فقال لأعوانه: خذوا بلجام دابته (أي الأمير) بين يدي إلى مجلس الحكم، فمروا بين يديه حتى أدخل المسجد، وجلس في مجلس القضاء، وجاءت المرأة المتظلمة وأجلسها مع الأمير بين يديه، فقال الأمير: أنا قد حضرت، أولئك يخرجون من الحبس! فقال القاضي: أما الآن فنعم، أخرجوهم من الحبس، ثم سأله عن شكوى المرأة فاعترف بها وردَّ إليها بستانها وحقوقها، ثم قالت للقاضي: بارك الله عليك وجزاك خيراً، ثم قامت من مجلسه، فلما فرغ قام وأخذ بيد الأمير وأجلسه في مجلسه وقال: السلام عليك أيها الأمير! أتأمر بشيء؟ فقال الأمير: اي شيء آخر؟ وضحك، فقال له شريك القاضي: أيها الأمير! ذاك الفعل حق الشرع، وهذا القول الآن حق الأدب! فقام المير وانصرف إلى منزله وهو يقول: من عظَّم أمر الله أذل الله له عظماء خلقه!

ولا نريد أن نذكر عظمات سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وما فعله من إنكار المنكر حين ولي القضاء في مصر، وكيف ضرب على أيدي الظلمة حتى أدى به الأمر إلى بيع أمراء مصر جميعاً! فتلك مما عُرفت وذاعت، وحسبنا أن نذكر بعد هذا كله حاجة المجتمع إلى عدد من طراز هؤلاء العلماء، يثبت الله بهم الحق، ويعلي بهم كلمة الخير، وينصر بإخلاصهم وجرأتهم قضايا الشعب مع الطغاة الظالمين.

فهل ينقذ الله الأمة بإيجاد أمثال هؤلاء العلماء؟ إننا لا نيأس من روْح الله!...

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: " أخلاقنا الاجتماعية" للدكتور مصطفى السباعي ص 197- 213

راجعها وأعدها للنشر: مجد مكي

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين