ملامح سور القرآن: سورة مريم

لا تنس أن هذا القسم بدأ بسورة يوسف، وهي في ذكر مبدأ أمر بني إسرائيل، كما سلف، وسورة الرعد في تمثيل الوحي بالماء الذي يحمل الزَّبَد، ويصحبه الرَّعد والبرق والصواعق، أي: الإنذار والعقوبات، بمناسبة أن بني إسرائيل لم يرفعوا بالوحي رأسًا، ولم ينتفعوا به، إلا مَن استثنى الله، وسورة إبراهيم في الكلمة الطيبة التي هي شكر لله أو بلاغ لدعوته، ونموذجها الأمثل نبي الله إبراهيم، وهو لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وسورة الحجر في حفظ أصل الوحي، بمناسبة تقلب حال الحاملين له، وتحريفهم له، وسورة النحل استطراد في شأن تعديد أصول النعم، ولا يقدر البشر على إحصائها، وسورة بني إسرائيل أو الإسراء في شأن وراثة هذه الأمة للنبوات، إعمالًا لقانون الاستبدال، وسلب النعمة من الكافرين بها، وسورة الكهف في تصرف الأقدار والفتن، لتثبيت ورثة الرسالة.

فإذا وصلتَ إلى سورة مريم فهي في شأن رحمة الله بهبة الذريَّة التي تسير على ما كان عليه سلفها، أو تحيد عنه، بمناسبة هذه الوراثة المذكورة. واسم الرحمن ومادة الرحمة شائعة في السورة، إذ ما يرحم به الوالد ولده مستمدٌّ من رحمة الله.

وهي تبدأ بدعاء نبي الله زكريا أن يهب له من يرث مقامه الديني، أي: يكون في ذريَّته من يقتدي به، فقد كان إخوته وبنو عمومته من شرار بني إسرائيل. ثم جاءت قصة مريم وابنها بتفصيل زائد عما في سورة آل عمران، ثم قصة إبراهيم وجداله الرفيق لأبيه، وأن الله وهب له إسحاق ويعقوب، ثم ذكر موسى ولم يذكر له ذرية، ولكن ذكر أن الله وهب له أخاه هارون نبيئًا، وذكر إسماعيل وأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، ثم إدريس، ثم ذكر أن هؤلاء من الذين أنعم الله عليهم من ذريَّة آدم، ومن ذريَّة من كان مع نوح، ومن ذريَّة إبراهيم وإسرائيل، وأنهم كانوا من أهل الإنابة والخشوع.

ثم جاء الخلف من بعدهم فأضاعوا الصلاة واتَّبعوا الشهوات، وتوعَّدهم، إلا من تاب منهم، ومِن وعيد المضيّعين لميراث آبائهم ولصلواتهم الإحضار حول جهنم، ونزع أئمة العتو والإجرام، ليكون لهم امتياز في العقوبة، كما كان لهم امتياز في الشر في الدنيا، ثم يدخل النار من هو أهل لها. فهذا هو افتراق الذرية يوم القيامة، وإن زعموا أنهم اليوم (خير مقامًا وأحسن نديًّا)، فلا يمنع ذلك عقوبة الدنيا ولا الآخرة، بل يمد الغاوين في غيهم، ويزيد المهتدين في هداهم.

ومن شأن الكفار التكثر بالمال والولد، والتَّعزُّز بعباداتهم وأوضاعهم الدينيَّة، وما ذلك إلا من إغواء الشياطين، وكل هذا مضمحل زائل، فإنما يؤخَّرون حتى يستكملوا الأجل المعدود.

وبمناسبة ذكر الذرية كان التفصيل لقصة ميلاد عيسى عليه السلام، والإنكار الشديد لنسبة الولد إلى الله تعالى، فتلك فرية مضادَّة للناموس الذي قامت به السموات والأرض، يكاد يختل له نظامها.

ويوم القيامة لا ينفع البنون والذريَّة، إذ كل الناس يأتي فردًا، له شأن يغنيه، ويحاسب وحده، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وليس يعني ذلك استيحاش المؤمنين أو خوفهم، فهم يومئذ آمنون يحوطهم التكريم والودادة من الله.

وهؤلاء الذين تسمعهم يملئون الدنيا ضجيجًا، مستكثرين بالمال والولد، ويفترون على الله الكذب، سيأتي عليهم زمن لا تسمع لهم فيه ركزًا، كما فُعل بأقوام من قبلهم.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين