وقفة تربوية مع جدي الشيخ الطبيب عمر خياطة

جدي الشيخ الطبيب عمر خياطة رحمه الله، عرفه أهل حلب كلهم في عيادته في حي الجبيلة، شيخًا طبيبًا ورجلاً من أهل الصلاح وكان كثير من المرضى يريدون زيارته لسماع دعائه أكثر من التطبب على يديه، توفي رحمه الله وأنا صغير السن في السابعة من عمري تقريبًا 1987م وبقي في رأسي قليل من الذكريات التي ما زالت تؤنسني في حياتي، ولكن من هذه الذكريات وقفة تربوية بقي أثرها في نفسي إلى اليوم.

فمن ذكرياتنا في بيت جدي الواسع أننا بينما نكون في لهو ولعب وقفز وضجيج فجأة يقول الكبار لنا: اهدؤوا فقد اقترب موعد قدوم جدكم. فتسكن الحركات وتهدأ النفوس ويرتب البيت وتهذب ملابس الأولاد، فإذا طرق الباب ودخل الجد رحمه الله يتحول كلامنا همسًا وحركاتنا خطفًا.

ولم يكن رحمه الله عابسًا مكشرًا بل كانت له هيبة أهل العلم والوقار تجعل الطفل بنفسه يهدأ عندما يراه، فكنا نشعر بالسكن والهدوء لرؤيته ونتسابق لتقبيل يده، ثم كان رحمه الله يدخل غرفته أولا ويبدل ملابسه ثم يدخل إليه أولاده ومنهم والدتي عائشة سحر، ثم يُنادى علينا وندخل نسلم عليه ونُعطى النقود أحيانا أو حلوى الأطفال (دروبُس) أو دواء كنا نسميه حامض وهو فيتامين س. وعندما يؤذن الأذان يذهب للوضوء وعند خروجه من الحمام كان يرش الماء على وجه أول طفل يراه من أحفاده ويقول: يَيّ، يمازحنا بذلك وكنا نضحك كثيرًا ونسعد لذلك أنه كسر حاجب الهيبة التي نراها فيه، ثم نقف جميعًا خلفه للصلاة كبارًا وصغارًا، وأذكر أنني في ذلك السن كنت لا أحب الصلاة خلفه لطولها وخصوصًا صلاة العشاء ولكني كنت أقف صاغرًا.

وبعد الصلاة كنا نجلس لقراءة سورة الواقعة أو تبارك بحسب وقت الصلاة، وكان لرمضان برنامج آخر أجمل لا ينسى ينتهي بصلاة التراويح معه رحمه الله.

والوقفة التربوية التي أردت أن أذكرها هنا، والتي ما زالت معي حتى هذا الوقت أنني كنت أنا وابن خالتي (الشهيد بن الشهيد) محمد الحسن بن علاء الدين سيد عيسى في نفس السن وكنا أخوان في كل شيء، ففي مرة من المرات لم نصل مع الجمع الصلاة فوقفنا نصلي معًا (وكنا في السادسة من العمر تقريبًا) وكان ابن خالتي إمامًا وأنا مقتدٍ به، وجدي رحمه الله جالس على الفراش بقربنا يغطي رجليه بغطاء صوفي ويُسمِّع القرآن لابنة خالتي المهندسة الأستاذة سمية سيد عيسى التي كانت تكبرنا بعامين، وأثناء وقوفنا حدث شيء استدعى الضحك منَّا فقطعنا الصلاة وضحكنا ثم بدأنا من جديد، ومرة أخرى فعلنا نفس الأمر حتى تكرر الأمر عدة مرات، وفجأة صمت جدي عن تسميع القرآن ونظر إلينا غاضبًا وقال بصوت مرتفع باللهجة العامية الحلبية: وْلَاك عَبتْساووا الصلاة لعبة، يا صلوا متل عاده يا بقوم بقلِّع آذانكم. 

فأذكر أنني صعقت لذلك وارتجفت من رأسي لأخمص قدمي، لأنني أول مرة في حياتي أرى جدي غاضبًا، وممن؟ مني ومن ابن خالتي ونحن اللذان لم نره غاضبًا في أي موقف آخر، فوقفنا بسرعة وصلينا بانتظام وأذكر أني بقيت كل يومي أشعر بالحزن لأن جدي غضب منَّا.

وكان من أثر هذا الموقف أنني فهمت معنى الصلاة وجديتها منذ طفولتي، فأصبحت أقف فيها منذ ذلك الحين موقف الجد والانتباه لا موقف الهزل واللعب كما كان يفعل بعض أقراني الصغار. وصار هذا الموقف درسًا لي نقلته إلى إخوتي الذين يصغروني ثم أولادي من بعدهم، فأغضب غضبة جدي العمرية إذا رأيت موقفًا منهم يشابه ذلك الموقف.

وكانت هذه الوقفة التربوية مستمرة ما حييت لآن من خرجت منه نحسبه من الصالحين الذين لا يغضبون إلا في أمر فيه انتهاك لحرمات الله، فاللهم ارحم جدي الشيخ الطبيب عمر خياطة وأسكنه فسيح جناتك وأجره أضعافًا مضاعفة على ما ترك فينا من أثر.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين