ها هي الكعبة المشرّفة

 

الشيخ : عبد الله نجيب سالم

 
بين يدي الكعبة!!..
 
وللحاج وقفة ما بعدها وقفة، إذا وقع بصره على الكعبة المشرفة... إنها وقفة الخشوع التام والخضوع الكامل والمهابة العظيمة عند النظر إلى أول بيت وضع للناس في الأرض لعبادة الله عز وجل...
 
ـ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِّلْعَالَمِينَ  فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً)(1).
 
بل إن هذا البيت قد زادت مكانته ومنزلته بالنسبة والإضافة إلى الله، فهو بيت الله الحرام، والمساجد كلها تبع له، فهي لمشابتها له واتجاهها بمحاريبها إليه سميت بيوت الله، ولنستمع إلى قول الباري سبحانه:
 
ـ (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(2) فسماه بيته، وأعلن ذلك إكراماً له وتعظيماً.
 
وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: " سألت النبي r عن أول مسجد وضع في الأرض؟
قال: المسجد الحرام.
قلت: ثم أي؟
قال: المسجد الأقصى.
قلت: كم كان بينهما؟
قال: أربعون عاماً، ثم الأرض لك مسجد، فحيثما أدركت الصلاة فصل ".
 
وروي عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً، وهو البيت المعمور، وأمر الملائكة أن يطوفوا به، ثم أمر الملائكة الذين في الأرض أن يبنوا بيتاً في الأرض على مثاله وقدره، فبنوا هذا البيت وأمر من في الارض أن يطوفوا به، كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
 
كما روي أن الملائكة كانت تحجه قبل خلق آدم، فلما حجه آدم بعد نزوله إلى الأرض قالت الملائكة:
ـ بَرّ حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
 
البناء الأول... والتجديد المتكرر
 
وإذا كان آدم آدم قد حجه فإنا لا ندري عن بنائه ذاك شيئاً، ولكن أشهر بناء للبيت وأصح إنما هو بناء أبي الأنبياء إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام: فإن بناءهما له مشهور مذكور في قول الحق سبحانه:
 
ـ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(1).
 
ولكن البناء والترميم والتجديد تكرر للكعبة المشرفة أكثر من مرة، يقول العلامة الألوسي في تفسير قول الله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ)(2): والمراد بالبيت بيت الله عز وجل، الكعبة المشرفة، وقد بنيت خمس مرات:
 
إحداها: بناء الملائكة عليهم السلام قبل آدم، وكانت من ياقوتة حمراء، ثم رفع ذلك البناء إلى السماء أيام الطوفان.
 
الثانية: بناء إبراهيم عليه السلام، روي أنه لما أمره تعالى ببناء البيت لم يدر أين يبني، فأرسل الله تعالى له الريح الخجوج، فكشف عن أُسِّه القديم، فبنى عليه.
 
والثالثة: بناء قريش في الجاهلية، وقد حضره النبي r وكان شاباً، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فأرادت كل قبيلة أن تتولى رفعه، ثم توافقوا على أن يحكم بينهم أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله r أول من خرج، فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط (كساء) ثم يرفعه أمراء جميع القبائل، فرفعوه، ثم ارتقى r، فرفعوه إليه، فوضعه مكانه.
 
والرابعة: بناء عبد الله بن الزبير.
 
والخامسة: بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم(3).
 
وارتفاع الكعبة في السماء: سبعة وعشرون ذراعاً وربع ذراع، وأما طولها في الأرض فمن الركن اليماني إلى الركن الأسود خمسة وعشرون ذراعاً، وكذا ما بين اليماني والغربي، وأما عرضها فهو من الركن اليماني إلى الركن الأسود عشرون ذراعاً، وطول الباب ستة أذرع وعشرة أصابع، وعرضه أربعة أذرع وهو في جدارها الشرقي، وارتفاع ما تحت عتبة الباب من الأرض أربعة أذرع وثلاث أصابع.. والذراع قرابة نصف متر.
 
وهناك تجديد آخر لبناء الكعبة تم عام 1040 للهجرة حيث تصدعت جدرانها نتيجة أمطار غزيرة، فأعيد بناؤها آنذاك من جديد.
 
وتذكر المراجع الخاصة ببناء الكعبة المشرفة تفصيلات أوسع عن بنائها وترميمها ... إلا أن الحاج لا يشغله ذلك عن ما هو أهم منه، وهو الدعاء عندها، واستحضار الآداب لديها، ورفع الأكف إلى الله بالرجاء بجوارها.
 
تاريخ متجدد للمسجد الحرام:
 
هذا وإن مما يذكر في تاريخ المسجد الحرام أنه كان على عهد رسول الله r ولم يكن له جدار يحيط به.
 
فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسع المسجد، واشترى دوراً فهدمها، وأدخلها فيه، ثم أحاط عليه جداراً قصيراً دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه.
 
ثم لما استخلف عثمان رضي الله عنه اشترى دوراً أيضاً، ووسع بها، وبنى المسجد والأروقة.
 
ثم إن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه زاد سنة بضع وستين في المسجد زيادة كثيرة في خلافته.
 
ثم عمره بعد ذلك عبد الملك بن مروان ولم يزد فيه، لكن رفع جدار المسجد، وحمل إليه أعمدة الحجارة الرخام، ثم أن المنصور العباسي زاد في شقه الشامي، وبناه وجعل فيه أعمدة من الرخام.
 
ثم زاد المهدي بعده مرتين، وكانت الكعبة في جانب المسجد، فأحب أن تكون في الوسط، فاشترى دوراً وزاد في المسجد ووسطها...
 
وقد تتابعت التوسعات والزيادات إلى أن كانت آخر تلك الزيادات القديمة وأوسعها زيادة الحكومة السعودية عام 1375 هجرية... ولكن الحكومة السعودية أتمت الآن زيادة وتوسعة أشمل من كل ما سبق وأعظم وأضخم... ونسأل الله سبحانه لها حسن الجزاء على ذلك.. فقد فاقت كل تصور، وتعدت كل متوقَّع إتقاناً وتنظيماً   وجمالاً ومتانة!!
 
الأكف المرفوعة في ظلال الكعبة:
 
وقد أورد الإمام الغزالي جملة من الأدعية والآداب بالنسبة للحاج إذا اكتحلت عيناه برؤة الكعبة المشرفة يقول:
ـ ثم إذا وقع بصره على البيت فينبغي أن يحضر عنده عظمة البيت في القلب، ويقدر كأنه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه إياه، ولْيخش أن لا يكون أهلاً للقرب، فيكون بدخوله الحرم خائباً ومستحقاً للمقت، بل ليرج أن يرزقه الله تعالى النظر إلى وجهه الكريم، كما رزقه النظر إلى بيته العظيم... واشكر الله تعالى على تبليغه إياك هذه الرتبة، وإلحاقه إياك بزمرة الوافدين عليه، واذكر عند ذلك انصباب الناس يوم القيامة إلى جهة الجنة آملين لدخولها كافة، ثم انقسامهم إلى مأذونين في الدخول، ومصروفين، وذلك كانقسام الحاج إلى مقبولين ومردودين.
 
- وإذا وقع بصره على البيت فليقل: لا إله إلا الله والله أكبر، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، ودارك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إن هذا بيتك، عظّمته وشرفته، اللهم فزده تعظيماً وزده تشريفاً وتكريماً، وزده مهابة، وزد مَنْ حجه براً وكرامة، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وأدخلني جنتك، وأعذني من الشيطان الرجيم.
 
- ثم إذا دخل المسجد الحرام فليدخل ـ إن تمكن ـ من باب بني شيبة، وليقل: بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله.
 
- فإذا قرب من البيت، قال: الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، وعلى إبراهيم خليلك، وعلى جميع أنبيائك ورسلك.
 
- وليرفع يديه وليقل: اللهم إني أسألك في مقامي هذا في أول مناسكي أن تتقبل توبتي، وأن تتجاوز عن خطيئتي، وتضع عني وزري، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمناً، وجعله مباركاً وهدى للعالمين، اللهم إني عبدك، والبلد بلدك، والحرم حرمك، والبيت بيتك، جئتك أطلب رحمتك، وأسألك مسألة المضطر الخائف من عقوبتك، الراجي لرحمتك، الطالب مرضاتك.
 
وختاماً نقول لك ساعة دخولك إلى الحرم:
ها أنت أيها الحاج أمام بيت الله، الذي طالما منّيت النفس برؤيته، بل وسقتها في كل يوم خمس مرات على الأقل للتوجه إليه واستقباله، فحصل لك بالتوجه إليه باستمرار في كل صلاة علم اليقين، حتى إذا ساقك الحنين فشددت الرحال إليه، فشاهدته بناظريك، انقلب علم اليقين عندك إلى عين اليقين، فإذا فاضت عليك الآن بركات البيت الحرام وانغمست في نفحاته تكون قد ظفرت برتبة حق اليقين، فهنيئاً لك ذلك..
هنيئاً لك الأمن عند الناس، والأمن عند نفسك، والأمن عند ربك مصداقاً لعموم قوله تعالى:
(وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً)(1).
 
اللهم لا تحرمنا البركات، وأجزل لنا النعمات، يا رب العالمين.
 


(1) [آل عمران: 96].
(2) [الحج: 26].
(1) [البقرة: 127].
(2) [ الحج: 26].
(4) تفسير الألوسي 13/44.
(1) [آل عمران: 97].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين