ملامح سور القرآن: سورة طه

لتعرف موضوع سورة طه انظر إلى ما في مفتتحها: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، وما جاء في ختامها: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا)، فهذه الرسالة وهذا الوحي لم ينزل لتشقى به، بل الشقاء في الإعراض عنه، بل إنَّ الله ليصنع لمن يصطفيه لحمل دعوته، فيرعاه ويهيِّئ له الأسباب، كما فعل بموسى عليه السلام، وكما أراد ببني إسرائيل من استنقاذهم من عذاب فرعون وقومه، ولما آمن السحرة ألهمهم الثبات والصبر والاستعلاء على ما توعدهم به فرعون من النكال، وصاروا بسبب إيمانهم ينطقون بالحكمة، وحاق بآل فرعون العذاب بسبب إعراضهم وطغيانهم، وكان يجب على بني إسراءيل أن يذكروا نعمة الله، وألا يطغوا فيحل عليهم غضب الله، ولكنهم تبعوا السامري، وعبدوا العجل. وهكذا كانت الهداية والسكينة من نصيب الذين أصابهم عذاب فرعون، والضلالة والغَواية من نصيب الذين نجوا، فليس الشقاء بحسب الظاهر كما يُظن. والأعظم والأكبر هو ما يكون في الآخرة من الشقاء أو النعيم. 

وفي قصة آدم كان الشقاء أيضًا في المعصية، وقد نُبه آدم على ذلك، ولكنه ضعُف وأغواه الشيطان فأشقاه، ثم تاب عليه واجتباه.

وهذا الإمهال الذي تراه للعصاة إنما كان لأجل مسمًّى، وها هي العبرة في القرون الماضية، ومساكنهم ماثلة، فأين هم؟ وما فعل الله بهم؟

ثم الأرزاق لها أسباب يسعى بأخذها الإنسان، ولكن ما يصل إليه منها راجع إلى الأقدار والقسمة الإلهية، وتسخير الأسباب وما يكون منها بيده، فلا يجدي التطلُّع إلى ما أَعطَى آخرين من عباده، ومثاله في المواهب التي وهبها لموسى عليه السلام، فقد جعل عصاه معجزة، ويده آية، وأخاه وزيرًا، وعدوه راعيًا، وأمه سببًا ليلتقطه آل فرعون، وأخته سببًا لرده إلى أمه، وأهل مدين موئلًا وأهلًا، والبحر طريقًا ونجاة. وهكذا تطلع آدم بتزيين الشيطان إلى الخلد والملك المزعوم، والله قد جعله في الجنة، وكفل له بالشبع والري، واللباس والظل، ونهاه عن شجرة محرَّمة، فتطلع بتزيين الشيطان إلى الخلد والملك، وأكل من الشجرة، فترك ما متعه به، وتطلع إلى ما نهاه عنه، فبدت سوأته، ونزل من جنته، كما نهى بني إسرائيل عن الطغيان فيما زرقهم، فعبدوا العجل بإغواء السامري.

ومن هنا كان ذكر القرآن العربي في السورة، فهو منهاج الدعوة وأداتها، وقد كفل الله جمعه وتعليمه، ولن يندَّ منه شيء، فلا حاجة إلى العجلة في شأنه، ولكن تطلب الاستزادة من العلم به، والتفقه فيه.

وممَّا يدلك على معنى الفتنة بالأسباب المتصلة بالشقاء في هذه السورة أنها خصَّت بكلمة قالها آل فرعون في شأن موسى وأخيه لم ترد في غيرها، وذلك قوله: (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى)، فالطريقة المثلى لم تذكر إلا هنا، والأرض ذكرت في سورة طه مرتين، هنا وفي قولهم: (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى). وفي هذه السورة نعرف أن العجل أصله أوزار من زينة القوم تحوَّلت معبودًا، وأن اليوم الذي اختير لتحدي موسى بتكذيبه وإفحامه كان يسمَّى يوم الزينة.

ولا يخفى في السورة موقع ذكر الله في البعد عن الشقاء، فهو أولا غاية: (فأقم الصلاة لذكري)، (كي نسبحك كثيرًا. ونذكرك كثيرًا)، وهو زاد الطريق: (ولا تنيا في ذكري)، وهو ما أعطيه نبينا عليه الصلاة والسلام وغايته: (وقد آتيناك من لدنا ذكرًا)، (لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا)، والإعراض عنه سبب الشقاء في الآخرة: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا)، ويقابله النسيان، فنسي آدم وعصى، والذي أعرض عن الذكر يؤخذ يوم القيامة بنسيانه.

وخصت السورة بذكر الأمر بخلع النعلين في الوادي المقدس عند كلام الله له، وهو مظهر من التطامن والتواضع لمناسبة المكان والحال، وهو زينة ورفعة لصاحبه يفعله استجابة للأمر، ويقابله التواضع الذي يعم الخليقة في يوم العرض، من هيبة الموقف، فتخشع الأصوات، وتعنو الوجوه، وقبلها تنسف الجبال، فتُسَوَّي بالأرض. ثم الزمن كفيل بكشف الحقائق لمن تعامى عنها، فأنت تنتظر ما وعدك الله، وهم ينتظرون ما يتمنونه.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين