معنى الصلاح في وراثة الأرض بين الأستاذ والشيخ

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:

فقد اطلعت على مقال لطيف لفضيلة الشيخ إبراهيم منصور في التعقب على فضيلة الأستاذ راتب النابلسي في تحقيق معنى الصلاح الوارد في قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنَّ الأرض يرثها عبادي الصالحون) فاختار الأستاذ النابلسي أنه الصلاح الدنيوي بالعلم والقوة فيشمل الكفار، ونقضه عليه الشيخ منصور بأن الصواب أنه الصلاح الديني ولازمه أنه مقصور على أهل الإسلام، واحتج بأشياء منها أنه وصفهم بعباده وهذا الوصف لا يتأتى في الكفار وساق نظائره.

وتنقيح المقام أن يقال: أجمعنا على إنَّ المعنيين مقصودان للشارع، الصلاح الديني وهو الأصل والصلاح الدنيوي وهو مكمل، ووجه اعتراض الشيخ على الأستاذ: أن مذهبه يلزم منه اطِّراح الأصل وهو خلاف مقصود الشارع، لأن من شرط التكميلي أن لا يعود على الضروري بالإبطال، لكن الإشكال في مذهب الشيخ أنه يقتضي اطِّراح الصلاح الدنيوي وهو خلاف الواقع فضلا عن كونه يغادر مقصداً للشارع وإن كان مكملا.

والتمسك بأن الصلاح مقيَّد بالعبادة لا يلزم منه قصره على الديني لأن كتاب الله ورد بإطلاق مسمَّى العباد في الكفار كما قال: (يا حسرة على العباد) والسياق في المكذبين للرسل، وأطلقه في المعنيين أعني في المسلمين والكفار فقال سبحانه: (قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد) وأطلق اسم (عبادي) في الكفار كالمسلمين سواء، كما قال: (وقليل من عبادي الشكور)، وقال: (أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل) والمقصود أنه لا يتم للشيخ دليله من وجوه هذا الطريق.

ومن الناس من يقول: إن الأرض في الآية التي هي محل البحث، مكة شرفها الله، وقيل: هي الجنة، فيكون من العام الذي أريد به الخصوص، لكن على قول من حمله على عمومه، فهو وعد للصالحين من عباده دينيًّا أن يرثوا الأرض وقد تحقق في أول الإسلام فورثوا الأرض وعمروها بالصلاحين الديني والدنيوي كما وقع في أيام الراشدين ثم من بعدهم كالأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم. 

والسؤال المشكل: أن وراثة الأرض اليوم بيد غير الصالحين دينيًّا وهم صالحون دنيويًّا، فانفصل الأستاذ عنه بحمل الصلاح في الآية على الدنيوي ويشكل عليه أن الله أورث الصالحين دينيًّا الأرض مع أنه ليس لهم من الصلاح الدنيوي شيء كبير، ومن حمل الصلاح على الديني فإنه يرد عليه الإشكال الأول وهو الواقع اليوم، وقد يمكنه أن ينفصل عنه بأن يقول: إن هذا الواقع ليس وراثة وإنما هو هيمنة بالقوة، فإن الوراثة لا تتم إلا بإعمار الأرض بالطاعات، وهيمنة الكفار اليوم بمجرد الصلاح الدنيوي يكتنفها الفساد الأخلاقي وهو ضد الصلاح. 

ويتجه أن يقال: إن الصلاح ثلاثة أنواع: عام وهو استجماع أسباب التمكين الديني والدنيوي، وهو أكمل الأنواع كالذي وقع للأنبياء وخلفائهم، ونوعان خاصان أحدهما: الديني دون الدنيوي والثاني: الدنيوي دون الديني، وكلاهما لا يقع به وراثة الأرض المطلقة، بل قد يقع به نوع وراثة كالهيمنة والسيادة بعمران بعض الأرض.

أو يقال: إن الوراثة مطلقة ونسبية، فالمطلقة وهي استجماع أسباب الصلاحين الديني والدنيوي، كالذي وقع للأنبياء وخلفائهم ويقع لأهل الإسلام في زمان المصلحين والمجددين كالمهدي بوعد الله، ووراثة نسبية تقع بأحد النوعين وهي نوع سيادة، وتسميتها وراثة اصطلاح لا مشاحَّة فيه.

وبه يقع جواب من احتجَّ من اليهود بأن القدس لهم دون غيرهم بقوله تعالى (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) وجوابه: أن كتابتـها لهم ليست مطلقة، بل مقيدة بكونـهم صالحين لإعمارها دينيًّا ودنيويًّا، ولهذا هيمنوا عليها اليوم ولم يرثوها لأن صلاحهم دنيوي وليس دينيًّا، وانتزعت من أهل الإسلام لتقصيرهم في الدين والدنيا، فمتى صلحوا لوراثتها انتزعها الله من اليهود وردها لأهل الإسلام.

ولهذا قال بعقب الآية: (إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) فأطلق الوراثة والصلاح في العباد مؤمنهم وكافرهم، ثم نبَّه على استحقاق العابدين للوراثة المطلقة واختصاصها بـهم، أو أنَّ الوراثة وإن وقعت لغير العابدين لكن عاقبتها لهم، كما قال: (والعاقبة للمتقين) وقال سبحانه : (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) فأخبر أن عقبى وراثة الأرض للمتقين، قال ابن عاشور: (قد عُلم من قوله: والعاقبة للمتقين، أن من يشاء الله أن يورثهم الأرض هم المتقون إذا كان في الناس متقون وغيرهم، وأن تمليك الأرض لغيرهم إما عارض وإما لاستواء أهل الأرض في عدم التقوى).

وقد أخرج ابن إسحاق وابن شبة في (تاريخه) وابن أبي عاصم عن ابن أبي هلال، أنه بلغه أن مسيلمة الكذاب، كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد، فإني قد أُشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ذلك بأنـهم قوم يعدلون، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين).

ولـما شكى الإمامُ ابن الأئمة محمد بن جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام للإمام مالك رضي الله عنه، ما يجده أهلُ البيت من الجور والقهر، قال له: اصبر حتى يجيء تأويل هذا الآية: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون).

ولهذا قيَّد الوراثة بالمشيئة بعد أن بيَّن أنَّ ملكها المطلق له سبحانه دون غيره، لكنه أخبر أنه يورثها من يشاء من عباده الصالحين وغيرهم تسلية لأهل الإيمان إذا انتزعت منهم الوراثة لتخلُّفهم عن تحصيل أسبابـها الدنيوية فيسلموا ويرضوا بحكم الله وقضائه، ولو كانت الوراثة تختصُّ بالصلاح الدنيوي لم تتقيد بالمشيئة لأن الأرض لا بد لها من وارث في الدنيا، فلا حاجة للمشيئة لو كان لا يرثها إلا الصالحون دينيًّا، لكن لما كان يرثها غيرهم قيد الوراثة بالمشيئة. 

وهذا يجري على قانون التدافع الكوني، إذ لا يتصور تحقق وعد الله بوراثة عباده الصالحين للأرض إلا بوجود وراثة غيرهم من أهل الدنيا لها ممَّن ليس بصالح مطلقا، ومن هنا زلَّ القواعد والدواعش في قولهم: يجب قتل كل كافر واستئصاله حتى لا يبقى في الأرض إلا مؤمن صالح، فإنَّ الله لو شاء لجعل الناس كلهم مؤمنين كما أخبر ولكن حكمته اقتضت أن يتدافع أولياؤه وأعداؤه حتى يتم إعلاء كلمة الله ووراثة أوليائه في الأرض.

ولا ريب أن كل هذا مقيد بالعدل فلن تتم الوراثة التامة إلا به، كما نقل ابن تيمية عن بعضهم أنه قال: (إن الله يقيم الملك للدولة الكافرة ما دامت عادلة، ويمحق ملك الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة) ووقفت عليه في بعض كتب السادة الصوفية معزوًّا لابن المبارك، ولهذا لا يتم لأمريكا اليوم وراثة مطلقة لجورها وظلمها وإنما هو نوع سيادة وهيمنة دنيوية مؤقتة.

وقد صنف باتريك جيه وهو كاتب أمريكي كتابا أسماه (موت الغرب) يصف فيه الانـهيار الذي يتوقعه للحضارة الغربية بسبب ما يعتورها من الفساد القيمي والانحطاط الأخلاقي والموت الديموغرافي بانـهيار النظام الأسري فيه لشيوع الشذوذ الجنسي وتزايد عدد الأطفال غير الشرعيين وعدد مدمني الخمر والمخدرات، وهذا الواقع لا تتم معه وراثة وإن ساد أصحابه لبعض الوقت لتقهقر غيرهم.

وقد روى مسلم عن المستورد القرشي أنه قال عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالًا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك.

وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن ابن محيريز وهو عابد الشام حتى كان يعدل بابن عمر، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما فارس نطحة أو نطحتان، ثم لا فارس بعد الروم ذات القرون، كلما ذهب قرن خلفهم قرن مكانه، أصحابُ صخر وبحر، هيهات هيهات إلى آخر الدهر، هم أصحابكم ما كان في العيش خير) وهو مرسل.

وفي (المحاضرات) لأبي القاسم الأصبهاني: قال الأصمعي رحمه الله: دخلت خضراءَ روح بن زنباع، فإذا أنا برجل من ولده يفسق به في موضع كان أبوه يهب فيه المال ويضرب فيه أعناق الرجال، فقلتُ يا فضيحة! هذا موضع كان أبوك يهب فيه، فأنشد:

ورثنا المجدَ عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصَّنيعا

إذا المجدُ الرفيع تعاورته ... ولاةُ السوء أوشك أن يضيعا

والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

تنظر مقالة بل الصالحون دينياً يا شيخنا النابلسي هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين