إلى أين نحن ذاهبون؟

أعداء العربية هم أعداء الأمة. وقد تكون هذا العداوة بنت الجهل، وقد تكون بنت المكر (سمّها مؤامرة أو ما شئت). أما الماكرون فليس لي بهم شأن، ولن أتحدث عنهم في هذا المقام. ثم إنه لا يعنيني خطأ يصدر عن عالم، ولا هفوة تصدر عن نِحرير، أو سقطة يهفو بها فارس معروف. ولكن يعنيني أن الخطأ الفظيع الواحد الذي يصدر عن عالم يؤخذ عنه العلم يزن الأخطاء كلها التي يتبناها من يأخذ بخطئه. ولندخل في الموضوع. 

حوربت العربية كثيرًا (لأنها أم المصاعب، ولأن نحوها من المصائب، ولأن الإعراب عن كل ذهن غائب)، وغير ذلك مما تسمعه بين الفينة وأختها. وتجد بعض الأساتذة الكبار يقعون في ما لا ينبغي أن يمسّ قدرهم، وحين تقع بين أيديهم بارقة من نصوص يظنونها مؤيدة لهم يسارعون إلى استنتاج ما يريدون. سأتناول مسألة إعراب الكلم وأبْسُطُ فيها القول من ثلاث زوايا

الزاوية الأولى: في قراءة أبي عمرو بن العلاء وغيرها من القراءات إسقاطًا لبعض الحركات الإعرابية في بعض الكلمات من ذلك مثلا ما يأتي:

١. " وبعولتُهنّ أحق بردّهِنّ" (٢٢٨ البقرة) - بتسكين التاء في - : بعولتهنّ.

٢. " وجئتك من سبأ بنبأ يقين " (٢٢ النمل) بتسكين الهمزة في: سبأ.

٣. " وقالوا يا مالكُ ليقضِ علينا ربك" (٧٧ الزخرف). بحذف ضمة الكاف في : مالك.

وهناك بضع آيات أخرى.

استنتج أحد العلماء المحدثين - أعطاه الله الصحة والعافية - من ذلك أن العربية كانت في طريقها إلى إسقاط الإعراب. وهو بذلك يعني دون ان يصرح أن القرآن هو الذي حفظها من ذلك. نعم، القرآن حفظ للعربية الفصيحة إعرابها كله، ولكن بما أن القرآن لا يقبل التسكين إذن فمن المستحيل أن يسقط بعض القرآن في القرآن، ثم يكون ذلك دليلا على أن العربية كانت في طريقها إلى أن تخلع الإعراب. ولكنْ هناك سبب آخر غير هذا، وهو الذي سأبيّنه إن شاء الله. صحيح أن العجمة أصابت العرب، فصاروا كالأعاجم في هذه المسألة. ولكن لا يجوز لا يجوز لا يجوز أن نجعل هذه القراءات دالة على أن العربية كانت في طريقها لتخلع عن نفسها واحدًا من أنفس أثيابها. انظر في الآية الأولى، فإن إسقاط الضمة عن التاء في (بعولتهن) يحدث ضغطا نطقيا ليؤدي تركيزا على الكلمة كلها، فيفهم من ذلك أن البعول أي الأزواج هم دون غيرهم، دون غيرهم، دون غيرهم هم الأحق باسترجاع زوجاتهن قبل الطلاق البائن. لاحظ المعنى الذي يظهر من هذا النبرة الضغطية: (دون غيرهم)، عبّر النص الحكيم عن هذا المعني بإحداث نبر تزداد به قوة الضغط ومقداره وتتضاعف، لموافقة هذا الأداء النطقي للمعنى المراد من الآية. وفي هذا التركيز تحذير من أن يصادر أحد حق الزوج في مراجعة زوجته قبل بائن الطلاق.

وأما الآية الثانية : وجئتك من سبأ بنبأ يقين، فقد أسقطت القراءة حركة الجر من (سبأ)، وأدى ذلك إلى تسكين الهمزة تبعا لذلك. أدى هذا الإسقاط إلى إحداث نبر ضعطي قوي، ليوافق المعنى الذي أفادته هذه القراءة، وهو أنه جاء بالخبر اليقين من سبأ، نعم من سبأ وليس من غيرها. هذا المعنى أداه إسقاط الحركة الإعرابية من آخر كلمة سبأ.

أما الآية الثالثة: وقالوا يا مالكْ ليقض علينا ربك، بإسقاط ضمة الكاف، ليُحْدِثَ ذلك نبرًا ضغطيًا قويا يعبر عن بعض عذابهم وألمهم وبأس حالهم الذي هم فيه، فهم لذلك يخاطبون مالكا خازن النار: يا مالكْ - بتركيز على المقطع الأخير - بسبب حذف الضمة.

ثم، ثم، ثم إن هذا الحذف في هذه الآيات مسموع منقول عما نزل به الوحي، أي أنه ليس قياسيا، ولا يجوز أن نطبقه في أي موطن في القرآن ولا في ما نمارسه بالعربية الفصيحة، فهو محفوظ لا يقاس عليه.

الزاوية الثانية: زعم أحد الأساتذة وهو الدكتور إبراهيم أنيس، رحمه الله أن العربية لم تكن معربة يوما من الأيام، وأن النحاة هم الذين أدخلوا الإعراب على العربية، ما شاء الله! فهل هم الذين أدخلوا الإعراب إلى القرآن؟ هل النحاة هم الذين أدخلوا الإعراب إلى الشعر الجاهلي والشعر الفصيح في سائر العصور؟، علما بأن الإعراب يؤثر في سلامة الوزن في كثيييييير من الأبنية والجمل العربية في الشعر . خذ قول المتنبي:

هام الفؤاد بأعرابية سكنت=بيتا من القلب لم تمدد له طُنُبا

كأنها الشمس يعيب كفّ قابضه=شعاعها ويراه الطرف مقتربا

الآن،،،

أسقط الحركات الإعرابية من هذين البيتين، وقل لي بربك هل عاد لهذا الكلام محل من الشعر ؟

الزاوية الثالثة: زعم أحد الأساتذة الكبار وهو تمام حسان رحمه الله ورضي عنه أن الإعراب لا صلة له بالمعنى. وهي دعوى باطلة يحمل وزرها قطرب، تلميذ سيبويه. تلميذ من؟ تلميذ سيبويه. وأنشأ الدكتور تمام ما سماه بيتا من الشعر وهو هذا:

قاص التجين شحاله بتريسه الفاخي فلم يستف بطاسية البرن

قال ما مؤداه: هذا الكلام ليس له معنى، ولكننا يمكن أن نعربه على النحو التالي:

(قاص)- ظن رحمه الله أن هذه الكلمة ليست موجودة في العربية وهي موجودة -: فعل ماض مبني على الفتح

(التجين) : فاعل مرفوع بالضمة

(شحاله) : مفعول به وهو مضاف والهاء مضاف إليه إلى آخر هذا الإعراب.

ما الذي فعله الدكتور تمام رحمه الله ورضي عنه في هذا الإعراب؟ لقد وضع ما ليس لغة أصلا في القوالب الإعرابية ليصح له مثل هذا التندر العجيب. إذن الإعراب ليس مرتبطا بالمعنى.

على هذا يكون الصرف لا صلة له بالمعنى، كيف؟ لأن كل شخبوطة من الشخبطات المذكورة في هذا البيت موزونة خاضعة للوزن الصرفي . وإذن الصرف العربي يتعامل مع ما ليس له معنى، فكيف يُركن إليه؟

وعلى هذا أيضا يكون العروض مجموعة أخطاء متراكم بعضها فوق بعض، ولا يكون لها أدنى صلة باللغة، كيف؟ الكلمات التي أنشأها الدكتور تمام موزونة بحسب البحر الكامل. ولما كان هذا الكلام الذي ليس له معنى وُزِن بأحد بحور الشعر العربي، فالبحور وسائر قضايا العروض لا تعني شيئا. هذا مقتضى كلام الدكتور تمام حسان رحمه الله.

أرأيتم كيف جاؤوا ينقذونها من سُبات أبنائها فطعنوها ؟ غفر الله لهم جميعا، ولكن إلى أين نحن ذاهبون؟

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين