منهجية منضبطة في التعامل مع المعرفة

من بدائع التوجيهات القرآنية لتفكير الإنسان قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، يوما بعد يوم أؤمن أنّ هذه الآية تتضمّن منهجية منضبطة في التعامل مع المعرفة، إذ ثمّة معرفة تجلب الأذى للإنسان!

وبمراجعة ما ذُكر حول أسباب نزول هذه الآية بكامل عباراتها، سنجدها تتمحور حول كثرة السؤال عمّا لا يحتاجه الإنسان في حياته ولا يفيده، وعمّا لم يُفرض ولم يُحرّم عليه، وعمّا قد يتألّم لمعرفته.

ورغم أنها نزلت في بعض الروايات فيمن سأل مَن أبي؟ أين ناقتي؟ وفي روايات أخرى فيمن سأل هل الحجّ كل عام؟ وفي روايات أخرى فيمن سأل عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.. فإنّ عموم ألفاظ الآية يشمل هذه الحالات كلّها – كما يقرّر الطبري - ويشمل غيرها ممّا يندرج تحت المبدأ نفسه: النهي عن السؤال عن المعرفة التي تجلب الأذى للإنسان.

ليس كلّ سعيٍ للمعرفة محمودا، فقد يعرف الإنسان أشياء لا يحتاجها لتسيير حياته، ولكنها تفعل فعلها النَّكِد في عقله وقلبه، وتجعله يصرف طاقته في أشياء لا تنفعه في دنياه وآخرته، بل قد تضرّه وتنهك تفكيره.

هذا الضبط لجرعات المعرفة وأنواعها التي يحتاجها الإنسان هو جزء من الابتلاء المكتوب عليه في الدنيا؛ فقد فطره الله سبحانه على الفضول، الفضول الذي يتجلّى في الطفولة بريئًا متجّهًا نحو كل شيء ليمتلك الإنسان معرفة مفردات العالم الذي يحيط به، ثم يتركّز ويتمحور في أشياء بحسب المرحلة العمرية. ومن تمام نضج الإنسان ألا يُهرول لمعرفة كل شيء بمجرّد أن يخطرَ بباله وتهفو إليه نفسه، فهذا فعل الأطفال الذين يحتاجون من يوجّههم إلى ما فيه نفعٌ لهم، ومن يرشدهم إلى الأخلاقي وغير الأخلاقي. والنفسُ فضوليّة طمّاعة تسعى إلى أذيّتها برجليها، وحريّ بالعاقل أن يلجم فضول معرفتها كما يلجم فضول طعامها. وكما أنّه "ليس كلّ ما يُعرَف يُقال"، فكذلك: ليس كل ما يمكن معرفته تجب معرفته!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين