للضيف عصا

زعموا أن رجلا من نبلاء الرجال وأشرافهم وفد على قرية من القرى النائية في أرض الهند، فرحب به أهلها وأنزلوه منزلا حسنا، متلقيه في حفاوة بالغة ومبجليه تبجيلا، ولما حان الغداء قربوا له أنواعا من المطاعم الطيبة الشهية والمشارب السائغة الهنية، ووضعوا معها على الطاولة عصا ضخمة ماردة في صينية جميلة عملاقة.

فرح الضيف برؤية المائدة الثرية فرحا عظيما، ولما وقع بصره على العصا ارتاع وذعر ذعرا، وسأل مضيفيه في صوت ملؤه الهلع والرعب: أشكر لكم قراكم، فما للعصا والمائدة؟ قالوا: هذا تقليد توارثناه كابرا عن كابر، إذا نزل علينا ضيف أكرمناه ووضعنا عصا على مائدته.

لم يُهدِّئ هذا الجواب الضيف، ولم يُخَفِّف من وجله، وهو يترقب ما سيلحقه من الضرب بعد أن قضى حاجته من الأكل، فألح أن يتحقق من أمر العصا قبل أن يصيب من الطعام، وقال لهم: لا بد أن يكون لهذا التقليد من تفسير، ما أراكم تضعون العصا إلا بين يدي الضيف؟ فتقدم أحدهم وقال: أيها الزائر المفدى! لا نعرف السر المكنون وراء هذا التقليد، ولا ندري الغرض منه، إلا أننا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فلا يهمنك شأن العصا، وأقبل على الطعام آمنا.

فكر الضيف في نفسه، وقال: كيف أتناول الطعام آمنا، وبين يدي هذا الخطر الداهم؟ فقام وصرخ: والذي رزق الدويبات الصغيرات في ظلمات البر والبحر، حرام علي أن أمد يدي إلى طعامكم وشرابكم حتى تنبؤوني عن حقيقة هذا التقليد الذي ملأ نفسي دهشة ورهبة.

فانتشر في القرية أن الضيف أبى أن يتناول الطعام حتى يطلع على حقيقة العصا، فدعوا رجلا كبيرا، وقصوا عليه القصة، فلما رأى العصا الضخمة الماردة على المائدة غضب غضبا شديدا، وقال: أيها الأشقياء وضعتم هذه العصا الطويلة على المائدة، صغِّروها، فلم يكن كبارنا يضعون مثل هذه العصا الطويلة أمام الضيوف، فشقوا العصا شطرين، ووضعوا أحدهما بين يديه، ولكن الضيف لم يطمئن، وألح على استكشاف خفي العصا.

فاستدعوا رجلا أكبر منه سنا، وسمع ما جرى، فنظر إلى العصا، وقال: هذه عصا طويلة، كان كبارنا يضعون عصية صغيرة أمام الصيوف، فقطع الناس العصا قطعا، والتقطوا منها قطعة صغيرة، لا تنفع في الضرب، فذهب الروع عن الضيف، ولكن فضول الضيف في التفتيش والتنقيب لم ينته.

فداروا في القرية ووقعوا على شيخ طاعن في السن جاوز عمره مائة سنة، فسألوه عن أمر العصا، فلما رأى هذه القطعة استشاط سخطا وحنقا، وصاح عليهم وقال: كان كبارنا يضعون بين يدي الضيف عودا صغيرا دقيقا يخلل به أسنانه بعد أن يفرغ من الطعام.

قلت: هكذا يكبر الصغير، ويَجِلُّ الدقيق، وتصير الحبة قبة بتحول المكان وتغير الزمان، قال الزهري: "يخرج الحديث من عندنا شبرا فيعود في العراق ذراعا"، قلت: ويعود في خراسان باعا، وفي الهند ستين ذراعا.

يعجب الناس في المرأة أن تكون لطيفة البطن وضامرة الكشح، قال عنترة بن شداد:

وبطن كبطن السابريّة ليّن=أقبّ لطيف ضامر الكشح مدمج

ثم انظر ماذا تفعل المبالغات، ألف الشاعر الفارسي الصوفي عبد الرحمن الجامي كتابه (يوسف زليخا)، وما ترك موضعا من بدن زليخا إلا وصفه وصفا ظاهر البطلان مؤاخيا الكذب والزور أيما مؤاخاة، فحكى لنا أن خاصرتها أدق من نصف شعرة، ووركها أضخم من الجبل، وإنه ليعيب الهند أن تسبقها إيران في الدجل والافتراء، فوصف شاعرها حبيبته بأنها ليست لها خاصرة، فلا يدري أين تعقد إزارها. ويل لمن لم يميز الصدق الوضاء من الإفك والهراء، ونطق هجرا وجعل الصبح ليلا عاميا عن الضياء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين