التلازم بين التمكين والهجرة في سورة القصص

الحمد لله وبعد؛ فسورة القصص سورة مكية، نزلت بعد موت أبي طالب وخديجة في العام العاشر، وقد تجرَّأت بعدها قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما لم تكن تتجرَّأ عليه في حياة أبي طالب، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، دفعهم لجرأتهم تلك جاهُهم وسلطانُهم، ومالُهم وغناهم؛ فأنزل الله تعالى في ذلك سورة القصص.

بدأت سورة القصص بقصة، وانتهت بأخرى؛ بدأت بقصة فرعون وهلاكه، الذي اغترَّ بقوة حكمه وسلطانه، وانتهت بقصة قارون وخسفه، الذي اغترَّ بقوَّة ماله وعلمه، وبين القصتين كان للسورة جوَلات وصوَلات، طالعتنا خلالها على مصارع المكذبين لرسل الله وأنبيائه، ثم أوقفتنا على مشاهد من حالهم في الدار الآخرة، صاغرين مقبوحين؛ لتقول في النهاية: إنَّ القوَّة الحقيقية هي قوة الله تعالى، وإن القيمة الحقيقة هي قيمة الإيمان، لا قوَّة الجاه، ولا قيمة المال!

لقد احتاط فرعون بكل قوَّته وسلطانه من خروج ذلكم النبي، الذي بشَّر به إبراهيم، والذي سيكون هلاك الفراعنة على يديه؛ فسخِرت منه قوَّةُ الله وضحكت، وقادت إليه النبيَّ طفلاً؛ ليربِّيه في قصره بيده، وعلى عينه، بل في حضن امرأته، وعلى فراشه؛ ثم تمخَّضت بعدها الأيام؛ فكان هلاك فرعون على يدي ذلكم الربيب! وهي رسالة أولى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي تربى في قريش يتيمًا، بعد أن فرحوا بمولده، فرح آل فرعون بموسى وأكثر؛ رسالةٌ أنه سيكون هلاك قريش على يديه أيضًا؛ إن استمرَّت في كفرها وعنادها استمرار فرعون وملئه!

ولقد نشأ موسى منعَّمًا مدللاً في قصر فرعون، والنعيم والترف يخالف سنة الله تعالى في الذين قدَّر لهم أن يكون تغيير حال البشرية على أيديهم، فإن قدَرَ الله تعالى في المصلحين أن لا بدَّ أن يمروا بقطار الفقر والجوع، والبؤس والحرمان؛ قبل أن يقودوا عملية التغيير والإصلاح، ولا بد لموسى الذي اختاره الله لتغيير حال مصرَ أن يمرَّ بذلك لا محالة، ولكن؛ كيف السبيل وموسى المنعَّم الذي لم يجُعْ قطُ، والمترف الذي لم يبأسْ مرة!؟ 

لقد قدَّر الله تعالى أن تقع من موسى حادثة قتل، لقبطي من رجال قصر فرعون، ويتربص بعدها رجال القصر بموسى ليقتلوه جزاء فعلتِه، وجرأتِه عليهم؛ فيهرب بعدها موسى من مصر، متوجهًا إلى مدين، وينزل على ذلكم الرجل الصالح، فيزوجه ابنته، ويجعل مهرها عملَ ثمان سنين في مجتمع الرعاة والخدم عنده! يرعى خلالها الغنم، ينظف أرواثها، ويجزُّ أصوافها، ويحتطب لأهل البيت، ويجلب لهم الماء، وقد كان! بل لقد وفَّى موسى المهرَ، فجعله عشر سنوات، استوى خلالها على صحراء الجزيرة العربية في مدين ونضج، وشعر فيها بشعور الفقراء، والجوعى، والبائسين، وتحقَّقت فيه سنة الله في المصلحين؛ ثم عاد بعدها إلى مصر، وفي طريقه رأى النار، التي كان فيها الاصْطفاء والتَّكليم، ودخل بعدها مصرَ فاتحًا، مغيرًا حال أهلها، وعقيدتهم.

ولقد كانت قصة موسى تلك رسالةً أخرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه أيضًا، رسالةً فحواها: أن لا بد لكم من هجرة ليُمكَّن لدعوتكم في الأرض، هجرة تستوون فيها استواء موسى في مدين، ثم تعودون بعدها لبلدكم فاتحين منتصرين، كما عاد موسى لمصر منتصرًا فاتحًا، ولقد كان الحديث عن الهجرة صعبًا على النفوس ثقيلًا، ورغم أن الله تعالى قد أشار إلى المسلمين أنكم بعد هجرتكم تلك سترجعون لبلدكم مكة، كما رجع موسى لبلده مصر؛ ولكن تلك الإشارة لم تكن كافية لإطفاء هواجس الخوف في نفوس أولئك البشر؛ واحتاجت نفوسهم للتصريح بذلك أكثر وأكثر؛ فقال الله لنبيه نهايةَ السورة: ﴿إن الذي فرض عليك القرآن لرادُّك إلى معاد﴾ صرَّح له بأنكم سترجعون لمكة بعد هجرتكم منها.

بذلك تكون سورة القصص قد اقتربت خطوةً أخرى من الأمر المباشر بضرورة الهجرة، إلى أن جاء الأمر بها صريحًا في آخر ما نزل بمكة، وهي سورة العنكبوت، كما سيأتي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين