موضوعات سور القرآن: سورة آل عمران

هي السورة الثالثة، مدنيَّة، وعدد آياتها مائتان، وسبب تسميتها (آل عمران) أنه جاء ذكر عمران مرتين في آيتين متتاليتين. 

وقد سُمّيت سورة البقرة بهذا الاسم لقصّة فيها، أما سورة المائدة فقد سمِّيت بذلك لقصة المائدة التي طلب الحواريون إنزالها من السماء، وهكذا نرى أن السور تُسمَّى بأهم أو أغرب ما اشتملت عليه.

وليست سورة آل عمران من أوائل ما نزل بالمدينة، فقد كان نزولها بعد فترة تقلبت فيها على المؤمنين أحوال من النصر والهزيمة في غزوات متعددة، واختلطوا بأهل الكتاب، وجرى بينهم كثير من الحِجاج والنقاش فيما يتصل بالدعوة المحمدية وفروعها، وقد نزلت (آل عمران) بعد سورة الأنفال التي تكفّلت بالكلام على موقعة بدر.

وبرزت العناية فيها بأمرين عظيمين لهما خطرهما في سعادة الأمم وشقائها:

أحدهما: تقرير الحق في قضية العالم الكبرى، وهي مسألة الألوهية وإنزال الكتب وما يتعلق بها من أمر الدين والوحي والرسالة.

والثاني: تقرير العلة التي من أجلها ينصرف الناس في كل زمان ومكان عن التوجه إلى معرفة الحق والعمل على إدراكه والتمسّك به.

لذاك نجددها بدأت بتقرير الأمر الأول فذكرت وحدانيَّة الله، وأنه وحده سبحانه الحي الذي لا يدركه الفناء، القيّوم الذي له الهيمنة على شؤون الخلق بالإيجاد والتربية الجسمية والعقلية، كما قرّرت علمه المحيط تعالى وقدرته النافذة القاهرة، ثم قدَّرت اصْطفاء الله سبحانه لبعض خلقه: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [النساء: 165]. يعرفون مهمَّتهم وهي دعوة الخلق إلى الحق، وأن الله تعالى أخذ على هؤلاء الرسل جميعاً العهدَ والميثاقَ أن يصدِّق بعضهم بعضاً في الحق وفي دعوة الناس إلى الله.

هذا هو العهد الذي حفظه عيسى عليه السلام وتوفي عليه وبه يلقى ربه يوم القيامة.

كما أبرزت السورة وحدةَ الدين عند الله تعالى وعلى لسان رسله جميعاً، وقد خصَّت جماعةَ المسرفين في شأن عيسى صلى الله عليه وسلم، الزاعمين له ما ليس له من ألوهية أو بنوةٍ أو حلول، فذكرت أنه لم يكن إلا رجلاً من آل عمران الذين اصطفاهم الله تعالى من بين مَن اصطفى، وبيَّنت أنَّ الخوارق التي ظهرت على يده لم تكن إلا من سنّة الله تعالى في تأييد رسله بالمعجزات.

وبعد أن تكشف السورة لأولئك شُبهتهم التي ضلوا بها، تسلك معهم سبيلاً آخر فتأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أن يتقدَّم إليهم فيدعوهم إلى المباهلة، وهي أن يجتمعوا جميعاً في صعيد واحد، ويستمطر الكل لعنة الله على الكاذب من الفريقين، فلم يقبلوا، بل خافوا وتولَّوا وانقطعوا عن الحِجاج، ثم ذكرت السورة أموراً كثيرة عن تفنُّنِ أهل الكتاب في إضلال المؤمنين، كما بيَّنت حِيلهُم وفنّدتها في كثير من الآيات البينات.

وبينما كانت السورة تقرر هذا المقصد على النحو الذي شرحناه باختصار، فقد عرضت أثناء ذلك بيان العلة التي تستحوذ على قلوب الناس، فتحُول بينهم وبين اعتناق الحق والعمل به، وهذا هو المقصد الثاني للسورة، وهي ترده إلى شيء واحد هو الاعتزاز بما لهم من أموال وأولاد وسلطان. فقد كان المشركون يتصورون أنَّ إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فيه زلزلة لما لهم من جاه وسلطان... وهم يريدون الحفاظ على ذلك.

وبعد أن تُرسِّخ السورة هذين المقصدين تتَّجه إلى جماعة المؤمنين، فتُحذّرهم أَلَّا يتأثَّروا قليلاً أو كثيراً بخطَّة هؤلاء المعاندين في الاغترار بمتاع الحياة الدنيا، وتطلب إليهم أن يعتصموا بحبل الله، ثم تُبيِّن لهم علاقاتهم بغير المؤمنين وكيف يجب عليهم أن يعاملوهم شارحةً ما يباح لهم وما لا يباح.

وهي تلفت نظرهم إلى واقعة بدرٍ وكيف أنهم انتصروا فيها بالإيمان والصبر رغم قلةٍ كانت لديهم في العدة والعدد، وكثرةٍ لدى أعدائهم في الجانبين.

ثم توجِّه انتباههم إلى واقعة أحُد، يوم اعتمدوا على قوَّتهم وكثرتهم. يومذاك انهزموا، بعد أن خطفت أبصارهم زخارف الدنيا.

وهي تذكر أن تلك الهزيمة كانت ابتلاء من الله وتمحيصاً للمؤمنين، وتقرر أنَّ العاقبة لهم على كل حال. أما الشهداء فهم الفائزون، لأنهم أحياء عند ربهم يُرزقون.

بعد ذلك وجَّهت السورة نداءاتٍ إلهيَّةً لجماعة المؤمنين، وحرَّمت الربا قليله وكثيره، ثم نبّهت المؤمنين إلى أنَّ من شأن أرباب الحق أن ينالهم كثير من الأذى، بالقول والعمل، من حُماة الباطل، وأنَّ واجب المؤمنين أن يتلقَّوا كل ذلك بالصبر والاحتمال.

وبعد هذا كله تُختم السورة بأمرين عظيمين:

الأول: رسم الطريق الذي يصل به الإنسان إلى معرفة الحق والإيمان به.

والثاني: هذه النصيحة الغالية التي ما تمسكت بها أمة إلا سمت وعزّت، ولا تخلت عنها أمة إلا أخذها الضعف فأفضى بها إلى الذل والهوان.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200]

ووجهُ اتصال هذه السورة بالتي قبلها: أنَّ كلًّا منهما بدئ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به. وأن الأولى تأتي على ذِكر آدم عليه السلام وخلْقه، والثانية على خلق عيسى عليه السلام، وكلاهما جرى على غير سُنَّةٍ سابقة في الخلق، وفي كلٍّ منهما محاجَّة لأهل الكتاب، وقد جاء الحِجاج في (البقرة) بإسهاب في محاجَّة اليهود وباختصار في محاجَّة النصارى، وفي (آل عمران) عكس هذا.

وفي آخر كلٍّ من السورتين دعاء، كما أنَّ الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى وكأنها متمِّمة لها، فبُدئت الأولى بآيات الفلاح للمتَّقين، وختمت هذه بقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200].

تيسير التفسير 1: 235- 237

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين