موضوعات سور القرآن: سورة البقرة

سورة البقرة مدنيّة من أوائل ما نزل بعد الهجرة، وهي أطول سورة في القرآن، إذ استغرقت جزءين ونصف جزء، وبلغ عدد آياتها ستاً وثمانين ومائتي آية. وقد سمِّيت بهذا الاسم لأنها انفردت بذكر حادثة قتلٍ وقعت في بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام، وكان للبقرة فيها شأن عجيب.

وقد ابتدأت هذه السورة بتفصيل ما انتهت إليه سورة الفاتحة فذكرت أن القرآن هو مصدر الهدى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]. وبيَّنت بالتفصيل من هم الذين أنعم الله عليهم بالرضا، والآخرين الذين غضب عليهم من الكفار والمنافقين.

وقد تحدَّثت السورة عن صدق القرآن، وأنَّ دعوته حقٌّ لا ريب فيها.

وبعد أن بيَّنتْ أصناف الناس الثلاثة: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين تحدَّثت عن الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده، وعن إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين. ثم إنها خصّت بني إسرائيل بالدعوة والمراجعة، وذكَّرتهم بأيام الله تعالى وبحوادثهم مع موسى عليهم السلام، وبإبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة، وقد استغرق ذلك نحو نصف السورة، لكنه تخلله حديث موجَّه إلى المؤمنين للاعتبار بما حدث لليهود والنصارى.

ثم انتقل الحديث إلى خطاب المسلمين بذكر ما هو مشترك بينهم وبين قوم موسى من فضل إبراهيم عليه السلام وهدايته ونسبه.

بعد ذلك جاء الحديث عن القِبلة وتحويلها عن القدس، واحتجاج أهل الكتاب على ذلك والرد عليهم، كما جاء ذكر التوحيد والتذكير بآيات الله تعالى الدالة عليه، ثم ذِكر الشرك والمحرّم من الطعام على أساس أنَّ التحريم والتحليل من حقِّ الله سبحانه وحده.

كذلك تعرَّضت سورة البقرة لبيان أصول البِرّ بتفصيل عظيم، وبيَّنت بعض التشريع مع أحكام الصيام والوصيَّة وأكْل أموال الناس بالباطل، والقتال والقتل والقصاص، والحج، والخمر والميسر، والنكاح والطلاق والرضاع والعِدة وغيرها. كما تعرضت للحديث عن العقائد العامَّة كالرسالة والتوحيد والبعث، وتحدَّثت عن الإنفاق والربا والتجارة وكتابة الدَّين، ثم خُتمت السورة بدعاء من المؤمنين لربهم.

هذا مجمول لمحتوى السورة، يمكن اعتباره تلخيصاً وتعداداً.

من هذا نرى أن سورة البقرة من أجمعِ السُّور، فقد احتوت على أصول العقيدة وعلى كثير من أدلّة التوحيد، كما ذكرت مبدأ خلق الإنسان، ثم وجَّهت عنايتها إلى أمرين اقتضت الإفاضةَ فيهما حالة المسلمين عقب هجرتهم من مكة إلى المدينة...

أحدهما: أن المسلمين تركَّزوا جماعةً مستقلة في المدينة، حيث بنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجده لأداء الصلوات المفروضة، وليكون بمثابة ندوة جامعة لهم، فهو مدرستهم ومحكمتهم ودار شوراهم، وذلك بعد أن آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، وصاروا جبهة مؤمنة واحدة تحتاج إلى تشريع تنظّم به شئونها.

وثانيهما: أن هجرتهم جعلت لهم جواراً في المدينة غير جوارهم في مكة، فهم الآن جيران اليهود بعد أن كانوا جيران المشركين من العرب.

بهذَين الأمرين نجد أن السورة تهدف إلى غرضين رئيسَين غير ما سبق.

الأول: توجيه الدعوة إلى الجيران الجدد ومناقشتهم فيما كانوا يثيرونه حول رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تشكيك وشُبه.

والثاني: التَّشريعُ الذي اقتضته صيرورة المسلمين جماعة متميزة عن غيرها في عبادتها ومعاملاتها.

وقد تضمنت هذه السورة عدة قواعد منها:

أن اتِّباع سبيل الله تعالى وإقامة دينه هما الموجبان للسعادة في الدنيا والآخرة، وأنه لا يليق بعاقل أن يدعو إلى البر والفضيلة وينسى نفسه، بل يجب إيثار الخير على الشر في كل حال، وأن أصول الدين ثلاثة هي: الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالبعث، والعملُ الصالح. أما الجزاء فهو على الإيمان والعمل معًا. وأما شرط الإيمان فهو الإذعان النفسي والتَّسليم بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

أما الولاية العامة الشرعية فيجب أن تكون لأهل الإيمان والعدل وحدهم، ويستعان على تحقيق الأمور الجليلة بالصبر والصلاة وبهما تنتصرُ القلّة على الكثرة.

وبصدد ما أحلّه الله تعالى لعباده وما حرَّمه سبحانه، فقد أحلَّ لهم الطيبات من المطعم، وحرّم أشياء خبيثة محدودة. ومع ذلك فإنَّ المحرّمات تباح للمضطر، لأنَّ الضرورات تبيح المحظورات، وتُقدَّر الضرورة بقدرها، فالدين مبنيٌّ على اليسر ورفع الحرج، والله لا يكلّف نفساً إلا وُسعَها.

أما الإكراه في الدين فهو ممنوع، فيما القتالُ مشروع للدفاع، ولتأمين حرية الدين، وسيادة الإسلام في مجتمعه.

وأن للمسلم أن يطلب حظه من الدنيا، كما يؤدي واجبه نحو الآخرة، وأن سدَّ الذرائع وتقرير المصالح من مقاصد الشريعة. والإنسان في الإسلام مجزيٌّ بعمله لا بعمل غيره، فإذا كان في الأديان دين يجتبي القبيلة بنسبها أو المرء بمولده في أُمة معينة، أو يحاسبه على خطيئة يزعم توارثها، فليس في الإسلام إنسان ينجو بالميلاد أو يهلك بالميلاد، ولكنه الدين الذي ترتبط فيه النجاة والهلاك بسعي المرء وعمله: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39].

تيسير التفسير 1: 47-49

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين