الأمّة.. وذكرى المولد

هكذا يدور الزمن دورته، ويحمل إلينا ذكرى مولد النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه. وأكرم بها من ذكرى تطلّ – بما تحمل من الشذى وبما هي مُثقلة به فيما أثمرت من الأحداث والوقائع- والأمة أحوج ما تكون إلى أن تدرك من جديد معنى صلتها بالرسول الكريم الذي أسلم إليها قيادة العالم خلال العديد من القرون، وإلى امتحان قدرتها اليوم على ترجمة العقيدة التي حملتها عنه، والمفهومات التي طرحها على طريق الإنسانية من خلال الكتاب والسنة وسيرته المباركة البناءة، إلى عمل يجدد للأمل شبابه بعد يأس، وإلى حركة توقظ من الغفلة بعد ضياع، وإلى منهج يجند الطاقات المبعثرة بعد شتات.

إن ذكرى مولد النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم التي كانت إيذاناً بفجر جديد، طلع على الدنيا، والأرض، كل الأرض، أشد ما تكون عطشاً إلى كلمة الحق، وإلى قبس يدلها على الهدى، ويُطْلق إسارها من سلطان الشيطان والطواغيت... إن هذه الذكرى أمانة تثقل كواهل العقلاء، وحجة على هذه الأمة التي خالفت عن أمر الله في الكثير من شؤون حياتها، وباتت تنظر إلى رسالة الإسلام نظرة اللهو والشهوة، فهي تريد من الإسلام ما لا يكون حرباً على الهوى وتسويلات الشيطان، وما قد يكون أقرب إلى السلامة وأبعد ما يكون عن ساحة المسؤولية والالتزام.

إن كل مُنصف تتسم نظرته بالموضوعية يعلم أن بعثته عليه الصلاة والسلام جاءت وكأنها نهاية لعهد طفولة البشرية وبداية لعهد الرشد والاكتمال، وأنه صلّى الله عليه وسلّم أخرج الناس من الظلمات إلى النور.

فلقد وضع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ببعثته الأسس لخريطة جديدة للعالم، كما امتدت يده الحانية الكريمة إلى المعادن تصوغها، وإلى الكفاءات تضعها في مكانها الطبيعي على قاعدة (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، فحرّر الإنسان من العبودية لغير الله، وأخرج العرب من الجزيرة ليكونوا القادة، بعد أن كانوا على حال لا يُحسَدون عليها من قبل، وفجّر طاقات الفرد ووضعها في خدمة الدعوة بعد أن كانت في خدمة العصبية الفارغة والجاهلية الجهلاء، وبنى المجتمع الذي تسوده الشريعة العادلة والخلق القويم.

ولم يبقَ لطبقة من الناس سلطان على الآخرين باسم الدين، ويكون من مهمتها أن تجعل من الدين أحاجي وألغازاً، لا يملك أحد مفاتيحها إلا هي، وربما اتخذت الدين مأكلة، وطريقاً لخدمة طبقة تتعالى على الناس أو ظالم يسومهم سوء العذاب كالذي حصل في أوروبا خلال القرون الوسطى.

ولقد يكون من الخير، ونحن نجيل الطرف في بعض زوايا هذه الساحة المباركة، أن نذكر أن مدلول "لا إله إلا الله" هو ترجمان لهذا الذي ذكرنا، فالحاكمية لله، والطاعة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم طاعة له سبحانه. ومعنى الإقرار بهذه الكلمة الطيبة كلمة التوحيد أن هناك التزاماً بمدلولها فيما ترسمه على صعيد الفرد والجماعة والدولة والأمة، ولسنا بسبيل أن نهدر شيئاً من الوقت في الأخذ والرد مع أولئك الذين يريدون لنا أن يكون حظنا من كلمة التوحيد حظ المريض يكرر كلمات وصفة الطبيب كلمة بعد كلمة، وربما تلذذ بذكر التاريخ الذي كتبت فيه أيضاً، دون أن يتناول العلاج المكتوب.

إن صدق ادعاء الاعتقاد بكلمة التوحيد يكمن في العمل بحقها، وتطبيق مدلولاتها من خلال القرآن الكريم الذي فيه العقيدة والشريعة والعبادة والأخلاق والسلوك، ومن خلال حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي هو بيان للكتاب. ولاحقة لا بد منها، نبصرها من خلال كلمة التوحيد، ما يحملك إلى ساحة الشعور الإنساني، بعيداً عن الأفكار الوافدة مما وراء السهوب والبحار.

إن كلمة التوحيد كرمت الإنسان، وعرفت قدر العلم، وأوضحت دور العقل في معرفة الله وتدبر آيات الكون، وحاربت التقليد الأعمى، ولم تدَعْ باباً من أبواب المعرفة إلا وَلَجَتْه من أوسع أبوابه... وكانت العقيدة التي فتحت فتوحها في آسيا وإفريقيا وأوروبا، ولم تعجز الشريعة التي انبثقت عنها أن تحكم تلك الرقعة الكبيرة من المعمورة بدقة وشمول لكل ميادين الحياة، معطية للنصوص قدرها، وللاجتهاد قدره في ميدانه، حيث النصوص تتناهى والوقائع لا تتناهى... ويا ليت الذين ليس لهم من ذكرى المولد إلا تحركات على السطح وعناية بالمظاهر، ذرّاً للرماد في العيون.. ليت هؤلاء، حرصاً على مدلول الذكرى، يتلون شيئاً من كتاب الله، إذاً لوجدوا آيات العقيدة بجانب آيات الشريعة، ولرأوا آيات الصلاة والصوم تواكبها آيات المداينة والبيع والشراء والشورى في الحكم والوفاء بالعقود... ترى: أليس لذلك من مدلول؟! أوليس من الضرورة أن يحرص المرء على عقله حين يفكر؟!!.

ألا إن الأمة اليوم ممثلة في شبابها المُدرِك الواعي، والرواد من أبنائها البررة الصادقين، مدعوة إلى مراجعة جريئة وواعية ورشيدة أيضاً، لما يجب أن تكون عليه الصلة بصاحب المولد صلّى الله عليه وسلّم، وآن للأمة أن تفعل ذلك، وماذا هي منتظرة بعد الذي دهاها من الظلام الحالك، والنكبات التي يأخذ بعضها برقاب بعض.

إن شهر ربيع الأول بما يحمل من طيب الذكرى وعطر التاريخ، ونقطة البدء لرحلة مباركة كانت ضياء الزمان، وعنوان كرامة الإنسان... جدير أن يحرك العزائم، ويوقظ الهمم لعهد جديد أن نكون عند مدلول العقيدة، وعند صدق المحبة لله ولرسوله: (قل: إن كنتم تحبّون اللهَ فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم. والله غفور رحيم)، مُدركين أنه لا يكمل إيمان المرء حتى يكون رسول الله أحبّ إليه من والده وولده ونفسه التي بين جنبيه.

ولقد تتعثر وأنت ترتحل عبر الآراء باتجاهين اثنين:

أما أحدهما: فذاك الذي يريد أن يهوّن من شأن العلاقة بين الأمة وبين نبيّها صلّى الله عليه وسلّم من خلال هذه الذكرى، لما أن ذلك أمر يدخل عالم الروح والعاطفة، والحياة اليوم تحتاج إلى غير هذا...

وأما الثاني: فهو الاتجاه الذي يجعل علاقة المسلمين بالذكرى علاقة تتسم بالسطحية والاكتفاء بالمظاهر، فحسبنا أن نقول: احتفلنا، ويكفينا للحكم في صدق العلاقة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وشرعته وتطبيق أحكام الدين الذي جاء به أن يكون لنا احتفاءٌ بالمولد.

إننا نودّ، من كل قلوبنا، أن يكون لنا دائماً الاحتفاء بسيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي تفيض بالعطر، وأن نفتح القلوب والنفوس لشمائله الكريمة، وأن نفسح للتربية المكان اللائق لهذه الشمائل، حتى يتربى الفتى والفتاة على خير ما يكون، محبة لهذا الرسول الكريم، وتطلعاً واعياً إلى التأسي بأخلاقه عليه الصلاة والسلام، وسلوكه في نفسه وفي أهله، ومع الجماعة والأمة، حيث يتجلى كمال الخلق فيه، زوجاً وأباً وأخاً، وحاكماً وقائداً، فضلاً عن كونه – فداه أبي وأمي- رسولاً يوحى إليه... ووراء ذلك كله، أن يكون ذلك إيذاناً بتحول صادق إلى حيث يريد هو عليه الصلاة والسلام.

غير أن حجم القضايا التي تعاني منها الأمة اليوم، وهي أكبر بكثير من الطاقات، مدعاة إلى أن ندرك أن التحول شطر مدلولات الإسلام بحذافيرها لا يمكن أن يكون عند الجميع بين عشية وضحاها، وطريقة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومنهجه الذي التزمه في التربية، وسيرته في بناء الجماعة المسلمة... كل ذلك هو الجواب على كل استغراب يقع.. فالرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما كان همّه الأول وقد تأبّت مكة على الدعوة أن يُعنى بتربية تلك القلة المؤمنة التي إذا قارنتَ عدد أفرادها من رجال ونساء، بالفترة الزمنية للعهد المكي، رأيت العجب العجاب، فإذا أدركتَ ما أثمرتْ في العهد المدني، جهاداً وانتصارات، وقيادة للمجتمع، وتحكيماً لشريعة الله، وتقديم ما قدمت للبشرية من أسس الحضارة الرشيدة... بلغ بك العجب منتهاه، وأدركت أن العبرة كانت بالكيف لا بالكم، وأن الكثير من الفوز إنما يعود إلى صدق تلك القلة المؤمنة التي تربت خلال ثلاثة عشر عاماً في مكة وسقت الأرض بالدم الصابر، وكان العذاب ومحاولة الفتنة عن الدين ضياء الطريق لها ولقافلة الخير في العالمين... وفي يقيننا أن معارك الإسلام الظافرة التي صنعت التاريخ ثمرة لهذه الفترة في دنيا الإسلام. وهذا لا يعني أن الإعداد قد انتهى بانتهاء العهد المكي، ولكن يعني أن الثمرة الطيبة ترتد في أصل شجرتها إلى هذا الإعداد الإيماني الصادق، والتربية المحمدية الفاضلة... حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً فيما بعد.

ولقد كان من خير ما أثمرته هذه التربية تلك الاستجابة السريعة عند الفرد والجماعة للعمل والالتزام والتضحية في أمثلة ونماذج تعزّ على الحصر – وهذا ما لا نكاد نجده اليوم- إلا في نقاط قليلة مضيئة هنا وهناك، وإذا اتضح ذلك أدركنا من أين يجب أن تبدأ الطريق.

المصدر: [ باختصار من افتتاحية مجلة حضارة الإسلام، ربيع الأول 1393هـ. للدكتور: محمد أديب الصالح ]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين