تقريب الظلال: سورة القلم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وسلم، أما بعد؛ فهذا تقريب سورة القلم من تفسير: (في ظلال القرآن) لسيد قطب.

المتمعن في موضوع هذه السورة المكية؛ يجد أن شواهده قد تظافرت على أن السورة نزلت بعد مرحلة الدعوة السرية، التي استمرت ثلاث سنوات، وليس كما جاء في الروايات والمصاحف المختلفة أنها السورة الثانية في النزول بعد سورة العلق، ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن، بل الطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة؛ بل إن سياق السورة وموضوعَها يجعلنا نرجح أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة، في الوقت الذي أصبحت فيه قريش مدعوة إلى الإسلام كافة، وأخذت تدفع هذه الدعوة وتحاربها، وتقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك القولة الفاجرة، من أنه مجنون، وأخذ القرآن يردها وينفيها، وذلك لم يكن إلا بعد أن أُمر صلى الله عليه وآله وسلم بالجهر بالدعوة، ونزول طائفة من القرآن، فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم، قال عنها المشركون: ﴿أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ كما حكته عنهم سورة القلم، ومن مرجحات تأخر نزل هذه السورة أيضاً؛ إشارتُها إلى شيء من عروض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للالتقاء في منتصف الطريق، والتهادن على تراضٍ في قضية العقيدة التي يدعوهم إليها ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ ومثل ذلك لا يكون والدعوة فردية لا خطر منها.

جاءت سورة القلم لتودع في الأرض غرسة العقيدة، في صورتها الرفيعة الناصعة الباهرة، المختلفةِ عن الصورة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم، التي يستمسك بخيوطها مشركو قريش، جاءت السورة تعرض العقيدة متفقةً في أصولها مع الحنيفية الأولى -دين إبراهيم عليه السلام- بالغةً بها نهاية الكمال، الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض، وكان هذا التصور الجديد للعقيدة كافيًا وحده للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها؛ ولكن هذه لم تكن وحدها؛ بل لقد كانت إلى جانب ذلك اعتبارات أخرى، ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها، كانت هناك اعتبارات اجتماعية، فمع شرف نسبه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه في الذؤابة من قريش؛ إلا أنَّ المشيخة والرياسة لم تكن له، بل كانت هناك مشيخة قريش، ومشيخة ثقيف، ولم يكن من السهل انقياد تلك المشيخة له، ولقد حكى القرآن قول بعضهم في ذلك: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31]، وكانت هناك اعتبارات عائلية، جعلت رجلًا كأبي جهل يأبى أن يُسلم؛ لأن النبي الذي يدعوه إلى الإسلام من بني عبد مناف! ولـمَّا سئل رأيه في الإسلام قال: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرفَ، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان؛ قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا، ولا نصدقه"! إلى غيرها من الاعتبارات الأخرى، التي حالت دون إسلام قريش، وجعلها تحاول قتل غرسة العقيدة في مغرسها بكل وسيلة؛ قبل أن تثبت جذورها وتتعمق، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى والحفنة المؤمنة معه تلك المقاومة العنيفة من قريش، ويعاني وقعها الأليم، ويسمع والمؤمنون ما كان يقوله المشركون عنه: ﴿وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ إضافة إلى الأذى الذي كان يصيب الكثيرين من أتباعه، على أيدي أقربائهم الأقربين.

لذا جاءت سورة القلم -كغيرها من السور المكية- تبين أن الله تعالى كأنما يحتضن رسولَه والحفنةَ المؤمنة معه، ويواسيه ويسري عنه، ويثني عليه وعلى المؤمنين، ويبرزُ العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة، وفي نبيها الكريم، وينفي ما يقوله المتقولون عنه، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه يتولى عنهم حرب أعدائهم، وإننا لنتبيَّن من خلال هذه المواساة، وهذه الحملة القاصمة على المشركين ملامحَ تلك الفترة، فترة الضعف والمعاناة، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في التربة العنيدة، كما أننا نلمح من خلال أسلوب السورة وموضعها ملامحَ السذاجة والبدائية في البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها؛ نلمح ذلك في طريقة مواجهتهم للدعوة، وقولهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ وهو أسلوب من لا يجيد إلا الشتمة الغليظة، يقولها بلا تمهيد، ولا برهان، كما يفعل السذج البدائيون، ونلمح سذاجتهم أخرى في القصة -قصة أصحاب الجنة- التي ضربها الله لهم، وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وبطرهم، وفي حركاتهم وأقوالهم ﴿وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ﴾، ونلمح سذاجتَهم في غيرها من آيات السورة أيضًا، وهي ملامح تظهر مدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة، وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام؛ حتى تسلمت قيادة البشرية، وارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة، التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية! وتلك معجزة تجلت في النقلة من هذه السذاجة إلى ذلك العمق والشمول، وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة، والضعف إلى قوة، لأن بناء النفوس والعقول أعسرُ من بناء الأعداد والصفوف. 

يقول تعالى: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)﴾ [القلم: 1 - 16]، يقسم الله تعالى بنون، وبالقلم، وبالكتابة؛ تعظيمًا لقيمتها، وتوجيهًا إليها، في وسط الأمة التي كانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها في علم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها، وانتشارها بينها؛ لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض، ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة، وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى؛ أقسم الله بنون وبالقلم وبالكتابة؛ لينفي عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الفرية التي رماه بها المشركون: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم: 2] أثبت في هذه الآية نعمة الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ونفى عنه تلك الصفة المفتراة، التي لا تجتمع مع نعمة الله على عبدٍ، نسبَه إليه، وقربه منه واصطفاه، وإن الإنسان ليأخذه العُجب أن يبلغ الغيظ بمشركي قريش ويدفعهم إلى أن يقولوا هذه القولة وغيرها عن هذا الإنسان الرفيع الكريم، المشهور بينهم برجاحة العقل، وبالخلق القويم؛ ولكن الحقد يعمي ويصم، ويحمل صاحبه أن يقذف بالفرية دون تحرج! وهو يعرف قبل كل أحد، أنه كذاب أثيم!

﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ [القلم: 3]، أجرٌ دائمٌ موصولٌ لا ينقطع، وماذا فقد من يقول له ربه ذلك، في عطف ومودة وتكريم؟ ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، تتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم، ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود، ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود، وهي شهادة من الله، في ميزان الله، لعبد الله، يقول له فيها: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله، مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين! ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبرز من نواح شتى: تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله، وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتلقيها، وهو يعلم مَن ربه قائل هذه الكلمة، ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ وإنَّ إطاقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتلقي هذه الكلمة، من هذا المصدر، وهو ثابت، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل، ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها؛ تَلقِّيه لها في طمأنينة، وفي تماسك، وفي توازن؛ هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل، والله أعلم حيث يجعل رسالته، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يثني على أحد أصحابه؛ فيهتز كيان صاحبه هذا من وقع هذا الثناء العظيم، وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر؛ فأما هو صلى الله عليه وآله وسلم فيتلقى هذه الكلمة من الله ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ وهو يعلم من هو الله، ويعلم منه ما لا يعلمه سواه، ثم يصطبر ويتماسك، ويتلقى ويسير؛ إنه أمر فوق كل تصور، وفوق كل تقدير! إنه محمد وحده هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة، ويبلغ قمة الكمال الإنساني، المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني، والله علم أنه أهل لهذا المقام؛ فأعلن في هذه أنه على خلق عظيم، وأعلن في أخرى أنه وملائكته يصلون عليه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: 56].

إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان الله، وإن الناظر في هذه العقيدة، وفي سيرة رسولها صلى الله عليه وآله وسلم؛ يجد العنصر الأخلاقي بارزًا فيها، تقوم عليه أصولها التشريعية، وأصولها التهذيبية على السواء، الدعوة الكبرى في هذه العقيدة دعوةٌ إلى الطهارة والنظافة، والأمانة والصدق، والعدل والرحمة وغيرها، ونهيٌ عن الجور والظلم، والخداع والغش، وأكل أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الحرمات والأعراض وغيرها، وتشريعات هذه العقيدة جاءت لحماية هذه الأسس، وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك، والضمير والمجتمع، وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء، ولقد لخَّص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسالته في الهدف النبيل فقال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

بعد ثناء الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه على خلق عظيم؛ يطمئنه إلى غده مع المشركين فيقول له: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)﴾ [القلم: 5 - 7]، فالغد سيكشف من هو المفتون الضال فيما يدعيه، ومن النبي المرسل من عند الله تعالى، وفي هذا الوعد ما يطمئن الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وما يقلق به أعداءه؛ ثم يكشف الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة حال أولئك المفتونين وهم يجادلونه في الحق الذي جاء به فيقول له: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾ [القلم: 8، 9]، فهم مزعزعو العقيدة، على استعداد أن يتخلوا عن كثير من معتقداتهم في مقابل أن يتخلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض ما يدعوهم إليهم؛ لأنهم ليسوا أصحاب عقيدة يؤمنون أنها الحق؛ وإنما هم أصحاب ظواهر يهمهم أن يستروها، ويرضيهم أن يلتقوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منتصف الطريق، وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية منتصف الطريق، ولا أن يلتقيا في طريق، سواء في ذلك جاهلية الأمس أم جاهلية اليوم؛ لأن الهوة بينهما لا تُعبر، ولا تُقام عليها قنطرة، ولقد وردت روايات كثيرة فيما كان يدهن به المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدهن لهم ويلين، ويترك سب آلهتهم، وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب! ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حاسمًا في موقفه من دينه، هو فيه عند توجيه ربه: ﴿فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ﴾ لم يساوم صلى الله عليه وآله وسلم وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة، وهو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يعذبون، ويؤذون في الله أشد الإيذاء؛ لم يسكت صلى الله عليه وآله وسلم عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة، من قريب أو من بعيد، حتى بعد أن كلمت فيه قريش عمَّه أبا طالب، وأرسلت إليه بعده الوليد بن المغيرة؛ بل لقد أنزل الله عليه في ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)﴾ [الكافرون: 1، 2] حاسمًا بهذه المفاصلة الجازمة تلك المساومة المضحكة، وأنزل عليه بعدها: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)﴾ وقد قيل إن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، وهو الذي نزلت فيه آيات من سورة المدثر أيضاً: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)... سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)﴾ [المدثر: 11 - 26]، وهذه الحملة القرآنية العنيفة عليه؛ شاهد على شدة دوره في حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته، كما هي شاهد على سوء طويته، وفساد نفسه، وخلوها من الخير؛ ولذا وصفه القرآن بتسع صفات كلها ذميم.

فهو حلَّاف، أي: كثير الحلف، ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق، يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به، وهو مهين، لا يحترم نفسه، ولا يحترم الناس قولَه، وآية مهانته: حاجته إلى الحلف، وهو همَّاز، يهمز الناس، ويعيبهم بالقول والإشارة، وخُلُق الهمز يكرهه الإسلام أشد الكراهية؛ لأنه يخالف المروءة والأدب، وهو مشَّاء بنميم، يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم، ويقطع صلاتهم، ويذهب بمودتهم، وهو منَّاع للخير، يمنع الخير عن نفسه وعن غيره، ولقد كان يمنع الإيمان وهو جِماع الخير، وعُرف عنه أنه كان يقول لأولاده وعشيرته، كلما آنس منهم ميلاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لئن تبع دين محمد منكم أحدٌ؛ لا أنفعه بشيء أبداً"، ومن ثَمَّ سجل القرآن عليه هذه الصفة «منَّاع للخير» فيما كان يفعل ويقول، وهو معتدٍ، متجاوز للحق والعدل، وهو معتدٍ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى المسلمين، وعلى أهله وعشيرته، الذين يصدهم عن الهدى ويمنعهم من الدين، وهو أثيم، يرتكب المعاصي، حتى يحق عليه الوصف الثابت: «أَثِيمٍ»، وهو بعد هذا كله «عُتُلٍّ» وهو الغليظ الجافي، الأكول الشروب، الشره المنوع، الفظُّ في طبعه، اللئيم في نفسه، السيّء في معاملته، وهو زنيم، وهذه خاتمة الصفات الذميمة الكريهة، المتجمعة في عدو من أعداء الإسلام، والزنيم من معانيه: اللصيق في القوم، لا نسب له فيهم، ومن معانيه: الذي اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه، وكثرة شروره، وهذا المعنى أقرب إلى حالة الوليد بن المغيرة.

ثم يعقب على هذه الصفات الذاتية بموقفه من آيات الله فيقول: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وما أقبح ما يجزي إنسانٌ نعمةَ الله عليه بالمال والبنين استهزاءً بآياته، وسخريةً من رسوله، واعتداءً على دينه، وهذه وحدها تعدل كل ما مرَّ من وصف ذميم؛ ولذا استحق التهديد بالعذاب، الذي يلمس منه موضع الاختيال والفخر بالمال والبنين ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾، من معاني الخرطوم: طرفُ أنف الخنزير البري، ولعله المقصود هنا، كنايةً عن أنفه، والتهديد بوسمه على الخرطوم يحوي نوعين من الإذلال والتحقير، الأول: الوسم كما يوسم العبد، والثاني: جعل أنفه خرطوماً كخرطوم الخنزير، وما من شك أن وقع هذه الآيات على نفس الوليد كان قاصمًا، فهو من أمة كانت تعدُّ هجاء شاعر -ولو بالباطل- مذمةً يتوقاها الكريم، فكيف بدمغه بالحق من خالق السماوات والأرض، بهذا الأسلوب الذي لا يبارى!

ثم يأتي المقطع التالي في السورة بقصة معروفة متداولة بينهم، يربط الله فيها بين سنته في الغابرين المترفين، أهل البطر، وسنته في الحاضرين من أمثالهم فيقول: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)﴾ [القلم: 17 - 33]، وهذه القصة وإن كانت متداولة بينهم معروفة؛ إلا أن القرآن يكشف عما وراء حوادثها من فعل الله وقدرته، وابتلائه وجزائه لبعض عباده؛ وهذا الجديدُ في سياقها القرآني. 

تطالعنا هذه القصة على حال مجموعة من أهل الريف السُّذج البدائيين، كان حالهم أقرب إلى حال المخاطبين بالقصة، الذين كانوا يعاندون الدعوة، ويجحدون الحق؛ ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد؛ إنما أقرب إلى السذاجة والبساطة، يعرض لنا القرآن تلك القصة أصحاب مشوق، كما أن فيه سخرية بالكيد البشري، العاجز أمام تدبير الله وكيده.

لقد كان للمساكين حظ في ثمرة هذه الجنة على أيام صاحبها الطيب، فلـمَّا آلت إلى الورثة، أرادوا أن يحرموا المساكين حظَّهم منها؛ فبيَّتوا في شأنها أمرًا، وكادوا للمساكين؛ فكان عاقبة كيدهم حسرة... يعرض علينا القرآن مجريات تلك المكيدة وعاقبتها فيقول: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ﴾ قرَّ رأيهم أن يقطعوا ثمرة الجنة عند الصباح الباكر، ولا يبقون للمساكين شيئًا، وهم في غفلتهم تلك؛ كان يجري وراءهم تدبير الله لهم؛ جزاءَ ما بطروا وبخلوا، وقعت لجنتهم مفاجأة والناس نيام: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ انتهى أمرها في الليل؛ فأصبحت مقطوعة الثمار، قد ذهب الطائف بكل ثمرها، وفي الصباح تنادوا فيما بينهم؛ لينفذوا ما اعتزموا ﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ﴾ ثم يمضي القرآن ساخرًا بهم، يصور حالهم منطلقين، يتحدثون في خفوت ﴿فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ﴾ وكأننا نحن نعلم عن أمر تلك الجنة أكثر مما يعلمه أصحابها؛ لأننا رأينا اليد الخفية التي امتدت إليها في الظلام؛ فذهبت بثمرها، فلنمسك أنفاسنا؛ لنرى كيف يصنع الماكرون، فالسياق ما يزال يسخر بهم ﴿وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾ قادرين على المنع والحرمان؛ ولكنهم تفاجأوا لـمَّا رأوا جنتهم ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ﴾ فما هذه جنتنا الموقرة بالثمار، ولـمَّا تأكدوا أنها جنتهم قالوا: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ هذا هو الخبر اليقين، حاقت بهم عاقبة المكر والبطر والبخل، فتقدم أوسطهم يذكرهم ما كان من نصحه وتوجيهه لهم: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾ فأجابوه قائلين: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ ثم أقبل بعضهم يلوم بعض ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ﴾ ثم تركوا التلاوم واعترفوا بالحقيقة؛ عسى الله أن يغفر لهم فقالوا: ﴿إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ وقبل إسدال الستار على المشهد الأخير؛ يأتي التعقيب القرآني على القصة فيقول: ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ هذا هو الابتلاء بالنعمة؛ فليعلم مشركو مكة ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ ولينظروا ما وراء الابتلاء، وليحذروا ما هو أكبر من ابتلاء الدنيا وعذاب الدنيا ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، ولقد كانت تلك القصة مثلًا ساقه الله لقريش، لطائفة ممن ابتلاهم بالنعمة فبطروا ومنعوا؛ فكانت عاقبتهم عذاب الدنيا، ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ﴾، أما المتقون الذين ابتُلوا فانقادوا؛ فلهم عند ربهم جنات النعيم ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.

وبعد أن ساق للمكذبين عاقبة المتبطِرين والمتقين؛ دخل معهم في جدل لا تعقيد فيه ولا تركيب، موجهًا لهم أسئلة على سبيل السخرية والاستنكار، هددهم خلالها بعذاب الدنيا والآخرة فقال: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)﴾ [القلم: 35 - 47]، جعل أول تلك الأسئلة الاستنكارية مناسبًا لذكر عاقبة المكذبين والمتقين فقال: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾؟ لا! لا يجوز في عقل ولا عدل، أن يتساوى المسلمون والمجرمون في جزاء ولا مصير، ثم أعقب هذا باستنكار آخر فقال: ﴿مَا لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾؟ علامَ تبنون أحكامكم حتى يستوي في ميزانكم من يسلمون ومن يجرمون؟ وبعدها انتقل السياق إلى السخرية والتهكم بهم فقال: ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾؟ هل لكم كتاب تستمدون منه ذلك الحكم الذي يستوي فيه المسلم والمجرم؟ إنه كتاب مضحك، لا يركن إلى حق، ولا إلى عدل، ثم قال لهم أخرى: إن لم يكن لكم كتاب تستمدون منه أحكامكم؛ فهل لكم ميثاق عند الله، سارٍ إلى يوم القيامة، يبيح لكم الحكم كما تشتهون؟ ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ فمن منكم يزعم ذلك؟ ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾ وهو تهكم ساخر عميق، يذيب الوجوه من الحرج والتحدي السافر المكشوف، ثم يوقفهم أمام المشهد الحاضر يوم القيامة، ويدعوهم إن كان لهم شركاء أن يأتوا بشركائهم ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ ولكن متى يدعوهم؟ يدعوهم: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ في ذلك الموقف الذي يشتد فيه الكرب والضيق، يُدعى فيه هؤلاء للسجود فلا يستطيعون؛ لأن وقته فات، أو لأن أجسامهم أصبحت مشدودة من الهول الذي رأوا؛ فلم يستطيعوا السجود، وهم في ذلك المشهد ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ وذلك بعد التكبر والتبجح، وهذا تذكير لهم بالتهديد الأول ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ [القلم: 16]، وبينا هم في موقف الذل هذا؛ يذكرهم بما جرهم إليه، وهو استكبارهم عن السجود لله في الدنيا ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ دُعوا للسجود وهم قادرين؛ فاستكبروا، وهم الآن يدعون للسجود فلا يستطيعون.

وبعد أن صور لهم حالهم يوم القيامة؛ أعادهم أخرى إلى الحياة الدنيا، وفاجأهم بالتهديد الرهيب المزلزل إذ قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ الجبار القوي يقول لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: خلِّ بيني وبين المكذبين، وذرني لحربهم، فأنا به كفيل؛ فالحرب معي لا معك، ولا مع المؤمنين، وهذا المخلوق الهزيل عدوي، وأنا سأتولى أمره، فدعه لي، وذرني معه، واذهب أنت ومن معك فاستريحوا! ثم يكشف لهم الجبار خطة حربه مع المخاليق المهازيل فيقول: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ الفخ الذي يوقعهم فيه هو الاستدراج بالنعمة والأمن، وإن شأنهم وشأن أهل الأرض أجمعين لأهون من أن يدبر الله لهم هذا التدبير، ولكنه سبحانه يحذرهم ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان، وليعلوا أن إمهالهم على ظلمهم وغيهم آمنين؛ إنما هو استدراج لهم لأسوأ مصير. 

ولقد نزل هذا النص على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة، والمؤمنون قلة، لا يقدرون على شيء؛ ولـمَّا تغيرت الأحوال والأوضاع في المدينة، ‏وشاء الله أن يكون للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولمن معه دور ظاهر في المعركة؛ أكد لهم حقيقة أن المعركة معركتُه؛ فقال لهم يوم بدر: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17] وذلك ليقرَّ في قلوبهم هذه الحقيقة، وأن الحرب حربُه، وأنهم في المعركة أداة، يفعل بها أو لا يفعل، وعندما يكون لهم دور فيها؛ فإنما ابتلاء لهم، يكتب لهم به الأجر.

وفي ظل مشهد القيامة المكروب، وظل التهديد المرهوب؛ يكمل الجدال والتحدي فيقول: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ؟﴾ هل ثقل الغرامة التي تطلب منهم على هدايتهم هو الذي دفعهم للإعراض والتكذيب؟ ‏أم أنهم على ثقة من الغيب، لا يخيفهم ما ينتظرهم بعد أن اطلعوا عليه، وكتبوه وعرفوه ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟﴾ لا هذا ولا ذاك؛ فما لهم يقفون هذا الموقف الغريب المريب من دعوتك؟

وبعد أن أخلى الله نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم من المعركة، وجهه إلى الصبر على تكليف الرسالة، وذكَّره بتجربة أخ له من قبل، يونس عليه السلام، الذي قد ضاق صدره بهذه التكاليف، ولم يصبر على عنت قومه وتكذيبهم؛ فخرج مغاضبًا إلى شاطئ البحر، وركب سفينته، ولـمَّا ثقلت السفينة بركابها؛ ألقي يونس في اليم؛ فابتلعه الحوت؛ وعندها وهو في بطن الحوت تذكر خطأه، وأنه تصرف في شأن نفسه قبل أن يأذن له ربه؛ ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87]؛ فتداركته رحمة الله؛ فنبذه الحوت على الشاطئ، ولولا هذه النعمة ﴿لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ أي من ربه على فعلته، وقلة صبره.

وفي الختام تلتقط الريشة المبدعة وتسجل مشهدَ الكافرين وهم يتلقون الدعوة من الرسول الكريم في غيض، وحسد عميق، تطلق عيونهم نظرات مسمومة قاتلة، وصفها القرآن بقوله ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ﴾ نظرات كادت تؤثر في أقدام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فتجعلها تنزل، أو تفقد توازنها، وهي نظرات مصحوبة بالسب القبيح ﴿وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ وحقيقة الأمر ﴿وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ والذكر لا يقوله مجنون، ولا يحمله مجنون، وصدق الله، وكذب المفترون.

والدعوة في أيامها الأولى في مكة تعلن عن عالميتها كما هي طبيعتها وحقيقتها، فلم تكن هذه الصفة جديدة عليها كما يدعي المدعون، إنما هي صفة مبكرة، منذ أيام مكة الأولى!.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين