أفَلا يتدبّرون القرآن؟

 

 

لماذا نقرأ القرآن؟ إن تلاوته عبادة من أشرف العبادات وإن قارئه لَيحصد الحسنات بالجملة، ففي كل حرف حسنة، ومن قرأه وهو شاقّ عليه فهو يتتعتع فيه فله أجران، وقد حَثّ النبي عليه الصلاة والسلام على قراءته وأخبرنا أنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لقارئيه.

 

هذه الجوائز السَّنِيّة هي الدافع الذي يدفعنا إلى تلاوته، ولكنْ لماذا وضعها ربنا -جَلّ وتبارك- على التلاوة أصلاً؟ ما هو السبب الذي رغّبَنا بقراءة كتابه الكريم من أجله؟ أو بصيغة أخرى: لماذا أنزل الله القرآن وكيف يريدنا أن نتعامل معه؟

 

إن الله الذي أنزل القرآن هو المرجع الوحيد الذي يحق له توضيح علّة نزوله، وهو يقول فيه: {كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدبّروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (ص: 29). هذه الغاية -التدبّر- تواترت بها آيات القرآن: {أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً} (النساء: 82)، {أفلا يتدبرون القرآن؟ أم على قلوبٍ أقفالها؟} (محمد: 24)، {أفلم يدّبّروا القول؟} (المؤمنون: 68)، {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مُدّكِر} (القمر: 17، 22، 32، 40)، {وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون} (النحل: 44).

 

*   *   *

 

لقد اهتم الصحابة الكرام بفهم القرآن وتدبّره والعمل به ففتحوا به الدنيا، فتحوها والحُفّاظ فيهم قلّة قليلة، حتى خيفَ عليه أن يضيع لمّا استُشهد سبعون منهم يوم اليمامة. ولم يكن أولئك حافظين للكتاب كله، بل لبعضه أو لأكثره، أما الذين حفظوا القرآن كاملاً من الصحابة فإنهم أفراد معدودون. أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: "جمع القرآنَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعةٌ كلهم من الأنصار: أُبَي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، قال: قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي". وفي البخاري أيضاً عن أنس قال: "مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد وأبو زيد". وليس المقصود أن الذين حفظوا القرآن من الصحابة أربعة لا غير، ولكنهم كانوا قلّة بالتأكيد (انظر: الإتقان للسيوطي 1/124).

 

لم يكن شغل الصحابة الشاغل هو الحفظ والتجويد والترتيل، بل التدبر والفهم والعمل. لذلك عقد القرطبي في مقدمة تفسيره باباً سماه: "باب كيفية التعلم والتفقه لكتاب الله وما جاء أنه سُهِّل على مَن تقدم العملُ به دون حفظه"، نقل فيه مما ورد في هذا المعنى أخباراً، منها ما روي عن عثمان وابن مسعود وأُبيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمهم القرآن والعمل جميعاً. وعن ابن عمر: كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورُزِقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يُقرئون القرآن منهم الصبيَّ والأعمى ولا يُرزَقون العمل به. وعن عبد الله بن مسعود: إنّا صَعُب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسَهُل علينا العمل به، وإن مَن بعدَنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به" (الجامع لأحكام القرآن 1/39). 

 

وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن عمر تعلّم "البقرة" في اثنتَي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً. وأخرج البخاري عن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة رضي الله عنها كانت لا تسمع شيئاً لا تفهمه إلا راجعت فيه حتى تفهمه. ولمّا راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث وقال: "لم يفقه القرآن من قرأ في أقل من ثلاث"، فدلّ على أن فقه القرآن هو المقصود بتلاوته.

 

ذلك كان المنهج الذي تلقّى به أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم القرآنَ فأقرهم عليه ورضيه منهم، ولو كان ثمة منهج أعدل وأقوم لدلهم عليه وهداهم إليه، فأين نحن اليوم من هذا المنهج؟ وأين المسلمون من كنوز القرآن ومفاتحه العظيمة التي بها يُرجى صلاح الأمة واستقامة الحال؟

 

*   *   *

 

لا بد ختاماً من التأكيد على أن المطلوب ليس صرف الناس عن تلاوة كتاب الله وحفظه وتجويده، فإنها من العبادات والقربات التي لا يرغب عنها عاقل مخلص. المطلوب فقط هو تقديم الفهم والتدبّر على الحفظ والتلاوة اتّساقاً مع المنهج النبوي في تلقي القرآن، وانسجاماً مع غاية منزّله من تنزيله، وتأكيداً للمقصد الذي من أجله أُمرنا بتلاوة القرآن فلا يُنسَى، والغاية التي أرادها الله عز وجل منه فلا تضيع.

حاشية :  أنصح الإخوة والأخوات جميعاً باستصحاب تيسير ميسّر مع التلاوة الرمضانية، فإن يختموا ختمة واحدة متدبرة خير لهم من عشر ختمات بلا تدبر.

التفاسير الميسرة المختصرة كثيرة، وأنا أوصي غير المختصين بأن يبدؤوا بتفسير أخي الفاضل الشيخ مجد مكي الذي نشره قبل بضع سنوات، "المعين على تدبر الكتاب المبين"، فإنه غاية في النفاسة والوضوح والاختصار.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين