أنا الآن في مدينة لينين كَراد الروسية المحاصرة دخلنا في الحرب العالمية الثانية ، آهٍ ، آهٍ ، آهٍ ، لقد اشتد الحصار علينا ، واشتدت صفعات الجوع على وجوهنا ، يحاول الاتحاد السوفييتي المحافظة على المدينة لكونها تحمل دلالة رمزية ، وهي اسم لينين .
الحصار من كل الجهات ، ولا يستطع خط الإمدادات الوصول إلينا إلا عن طريق بحيرة لادِشْتْكايا ، إذ إنها حينما تجمدت وفرت لهم ممرًا آمنًا يوصل إلينا شريان المدد ، ورمق الحياة الأخير ، فأصبحت السيارات تمر من فوق البحيرة المتجمدة لتوصل إلينا الخبز ، وكان الغذاء يوزع بالتساوي على كل السكان المحاصرين في المدينة ؛ مع قاعدة مهمة هي أن الجيش كان أولاً ، وكم من سيارة غرقت حين كان سُمْكُ الثلج فوق البحيرة لا يحتمل وزن السيارة !!
تحولنا - نحن سكان لينين كَراد – إلى هياكل عظمية متنقلة ، فلم يبقَ شيءٌ إلا أكلناه ، فنفدت كل الحيوانات الموجودة في المدينة ، حتى الكلاب والقطط أصابها الانقراض حين امتدت إلينا سياط الجوع ، وتعدينا ذلك لأكل الحشائش . ولكي نصمد في مواجهة الجيش الألماني كانت توزع لنا حكومتنا في الاتحاد السوفييتي 150 غرامًا من الخبز يوميًا لكل فرد ، أي : ما يعادل إصبعين فقط ، فمات كثير منا ، لأن هذه الكمية من الخبز لم تكن عادة كافية لبقائنا على قيد الحياة ، ولكن الحكم السوفييتي كان يسمح لنا بالموت ، ولم يكن ليسمح لنا بالاستسلام .
أنا أليسا فرينْدْليخ كنت ممن حالفهم القدر ، فبقوا على قيد الحياة ، وأنا أنتمي لأسرة روسية تتكون من خمسة أشخاص ، فأنا أعد نفسي محظوظة لكوني امرأة ناجية ، لقد نجوت بسبب جدتي الألمانية التي كانت امرأة دقيقة عملية ، إذ كانت تخطط لكل شيء في حياتها حتى الأشياء البسيطة ، وحين بدأت أصابع الحصار تحكم قبضتها علينا أصبحت جدتي تخطط بحكمة ، وتدبر وتفكر لتجاوز هذه الأزمة ، فاهتدت إلى تدبير ذكي وخطة محكمة .
بدأت جدتي تأخذ الخبز المخصص لأفراد عائلتنا من الجنود ، وتخفيه عنا ، وتغلق عليه صندوقًا موصدًا بقفل حصين لا يستطيع أي أحد فتحه ، فإذا جعنا كانت تعطي أحدنا كل ساعتين قطعة من الخبز ليمصها دون أن تسمح له بأكلها مباشرة ، وكانت تضرب أخي حين يستعجل فيأكل الخبز مباشرة .
كم كنا جميعًا ساخطين على جدتي ، لأنها لا تعطينا ما يكفي من الطعام لإبعاد مرارة الجوع ، وكانت عقولنا أصغر من أن تفهم ما يحصل لنعذر هذه الجدة الحكيمة ، ولم يسكن سخطنا عليها حتى رأينا الناس في الأسر الأخرى يموتون جوعًا ، ونحن ما زلنا على قيد الحياة ، فكانت تقول : انظروا هؤلاء يموتون جوعًا لأنهم لم يسمعوا نصيحتي ، ولم يأخذوا بخطتي ، إذ ما إن يتسلم أحدهم الخبز حتى يأكله من دون صبر على الجوع ، فلم يصمدوا طويلاً .
بهذه الطريقة العبقرية جعلت جدتي الألمانية هذه الكمية الضئيلة من الخبز زادًا يكفي لحفظ حياة الأسرة ، فخطتها هي التي حفظتنا من أن نكون فريسة سهلة لآفة الحصار.
وبعد صبر عظيم فتح الجيش السوفييتي الأحمر الحصار عن المدينة المحاصرة ، واستبشر الناس بالنصر ، واستقبلناهم بأهازيج النصر ، ولكن ما إن استتب الوضع للجيش السوفييتي حتى بدأ بحث الجنود عن كل سوفييتي من أصل ألماني ، فجمعوا كل أصحاب الأصول الألمانية ، وقاموا بنفيهم بعيدًا إلى جبال كازاخستان ، لظنهم أنهم كانوا مع الجيش الألماني الذي حاصر المدينة ، وكان من بين المنفيين جدتي الألمانية التي كانت سببًا في بقاء خمسة أفراد روس على قيد الحياة.
لقد اجتمع على جدتي قَتَلَةٌ كثيرون ، وكل واحد منهم كان يكفي لقتلها وحده : وعثاء السفر ، وهي امرأة مسنة ؛ ونكران الجميل ، وهي الوفية ؛ ومرارة البعد والنوى ، وهي المحبة لأسرتها ؛ والبرد القارس ، وهي الخاوية الأعْظُمِ من الجوع . فماتت جدتي الألمانية في الطريق ، ولكن ذكرها لم يمت ، وبذلك حصلت على منفاها الأخير الذي هو أرحم مما أرادوا لها.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول