الإسلامُ والمدنيَّة الحديثة

1 - إنَّ الشرق الآن - في جميع أرجائه - سائرٌ نحوَ التقدُّم المادي والتطوُّر الصناعي، بخطى واسعة.

وهو على وجه العموم، يتخذ المدينة الغربية مثلا يحتذى، ويعتبر الحضارة الراهنة في أوروبا وفي أمريكا نتاجاً بديعاً للعبقريَّة والنضوج

ومما لا شك فيه: أنَّ كلَّ محبٍّ للشرق ومخلص له، يحبِّذ هذا الاتجاه في جانبه المادي - جانب المعامل والمصانع. ويحثُّ عليه، ويدعو إليه، ويأمل أن يصبح الشرق - عما قريب به مُساهماً في تطوُّر هذا الجانب، وتقدمه، فلا يقتصر دوره على مجرَّد التقليد. 

وموقف الدين من هذا التقدُّم المادي، حينما يكون وسيلة للانتفاع الإنساني، وطريقاً لنفع البشرية، إنما هو موقف المبارك المشجع. 

وإن الدين الذي يذكر كتابه المقدس: أنَّ الله سخَّر للإنسانية ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، لا يتأتى أن يقف من هذا التسخير الذي يقوم به الإنسان الآن موقف المعارض.

والروح الإسلاميَّة الصحيحة تشجِّع العلم وتجلُّ العلماء، و الآثار في ذلك - قرآنية كانت أو عن الرسول، صلوات الله عليه، أو عن أئمة المسلمين - لا تحصى ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11] .

﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]. 

وإنَّه لمن المعروف، أنَّ أول كلمة نزلت من القرآن، إنما هي: ﴿إقرأ﴾، ويقول صلوات الله عليه (العلماء ورثة الأنبياء).

ويعقِّب الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، على هذا الحديث الشريف فيقول: (ومعلوم أنَّه لا رتبة فوق النبوة، ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة).

ويقول صلوات الله عليه: (العالِمُ أمينُ الله سبحانه في الأرض).

وفضَّلَ رسولُ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم العالمَ على العابدِ في أحاديث كثيرة.

۲ - هذه الروح، أنتجت ثمرتها اللازمة لها: أعني الحضارة الإسلامية، وقد كان للإسلام مدنيَّة، وكانت له حضارة، أنتجت عباقرة أفذاذاً: كجابر بن حيان في الكيميا، وابن الهيثم في الطبيعة، وأبي بكر الرازي في الطب، و غيرهم كثير. وكانوا يحيون حياة كريمة، وكانت بيئتهم الإسلامية تحمد لهم جهدهم، وتقدِّر لهم نبوغهم. 

وهؤلاء الأئمة الأفذاذ، هم الذين وضعوا أصول العلم التجريبي، وبنَوا أبحاثهم على الملاحظة والتجرِبة وقد كان منهجُهم وعلمهم يدرَّس في أوربا، فأخذت أوروبا منهجهم وعلمهم وعزَتْه لنفسها وأقامت عليه حضارتها الراهنة. 

والمنهج العلمي للحضارة الحديثة إذا إنما هو منهج الحضارة الإسلامية. 

يقول الأستاذ بريفولت: (إنَّ روجر بيكون درس اللغة العربية والعلم العربي، والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على خلفاء مُعلميه العرب في الأندلس، وليس لروجر بيكون، ولا لسميه الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحيَّة، وهو لم يملَّ قطُّ من التصريح بأنَّ تعلم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقَّة.

والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي، هي طرف من التعريف الهائل لأصول الحضارة الأوربيَّة، وقد كان منهج العرب التجريبي في عصر بيكون، قد انتشر انتشاراً واسعاً، وانكبَّ الناسُ، في لهف، على تحميله في ربوع أوروبا (1). 

ولقد بدأ علماء الغرب الآن يميلون نحو الإنصاف، فيتحدَّثون عن المكتشفات العلميَّة في الطبيعة، وفي الكيميا، وفي الطبِّ وفي غير ذلك من العلوم التي كان للعرب فضل السبق في اكتشافها، ويتواضع الغربيون الآن نوعاً ما فيما يتعلق بالمنهج التجريبي، فيصرِّح بعضهم - كما فعل الأستاذ بريفولت - بأنَّ أسسه وأصوله وضعها العرب. 

يتحدَّث بعض علماء الغرب المنصفين عن المكتشفات العلمية في الحضارة العربية وعن اختراع العرب للمنهج التجريبي وعن أثر ذلك كله في الحضارة الغربية الحديثة فيما يتعلق بنشأتها بل وفيما يتعلَّق بوجودها.

ومن أجمل مظاهر الإنصاف في ذلك عند علماء الغرب الذين تحدَّثوا عن هذا الموضوع كلمة الأستاذ بويفولت، التي تعبِّر عن حقيقة هي لا شك، واضحة كل الوضوح لمن درسوا تاريخ الحضارة العربيَّة وتاريخ الحضارة الغربية. 

يقول الأستاذ بريفولت- : إنَّ ما يَدين به علمنا، لعلم العرب ليس فيما قدَّموه إليها من كشوف مدهشة، لنظريات مبتكرة بل يدين هذا العلم إلى الثقافة العربية بأكثر بن من هذا. إنه يدين لها بوجوده نفسه، فالعالم القديم كما رأينا لم يكن للعلم فيه وجود، وعلم النجوم عند اليونان ورياضاتهم كانت علوماً أجنبية، استجلبوها من خارج بلادهم وأخذوها عن سواهم ولم يتأقلم في يوم من الأيام لتمتزج امتزاجاً كلياً بالثقافة اليونانية، وقد نظم اليونان المذاهب وعمَّموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث في دأب وأناة، وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريباً تماماً عن المزاج اليوناني، ولم يقارب البحث العلمي نشأته في العالم القديم إلا في الإسكندرية في عهدها الهليني، أما ما ندعوه العلم، فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة ولطرق من الاستقصاء مُستحدثة لطرق التجربة والملاحظة والمقاييس، ولتطوُّر الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان وهذه الروح وتلك المناهج العلميَّة أدخلها العرب إلى العالم الأوروبي (2).

وإذا تساءلنا الآن عن موقف الدين الإسلامي من المنهج التجريبي، ومن العلم المادي، فإننا نجزم غير مُتردِّدين بأنَّ موقف الدين الإسلامي من ذلك، موقف الداعي المشجِّع المستحثّ الآمر (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)، (كن عالماً أو مُتعلماً ولا تكن الثالثة فتهلك).

3 – وإذا كان الدين يقف من العلم المادي، ومن التقدم المادي موقف المشجِّع، فإنَّ موقفه من النيات والإرادات الإنسانيَّة التي تتحكم في استخدام هذا الإنتاج وتسيطر على استعماله، يحتاج إلى شيء من التفصيل:

ذلك أنَّ استعماله يمكن أن يتجه إلى الخير وإلى الرفاهية والسعادة وإذن فإن الإرادة الإنسانية التي تتجه به هذا الاتجاه لا تجد من الدين إلا العون والمساعدة والاغتباط.

ويمكن أن يستخدم النتاج المادي في الشرِّ والإيذاء، والسلطان والغلبة، وإذن فإنَّ الإرادة الإنسانيَّة التي أضرَّت بالإنسانيَّة لا تجد من الدين إلا اللعنة والمقت.

وإذا كان الدينُ يقفُ موقفَ المعارض من الاستعمال الضارِّ للمُخترعات فليس معنى ذلك أنَّه يقف موقف المعارض من المخترعات نفسها، ويجب أن يكون هذا واضحاً في جميع الأذهان حتى لا يأتي قوم لا يميِّزون بين موقف الدين من الاختراعات، وموقفه من استعمالها الضار، فيصفون الدين بالجمود مع أنه بموفقه هذا وبتفرقته تلك يبلغ الذِّروة في هداية الإنسانيَّة والعمل على إسعادها.

وعلى ذلك، فإنَّه يمكن لشبيهتها في الشرق أن تطمئنَّ إلى موقف الدين من الحضارة الماديَّة، وأن تعتبره الموقف الوحيد الذي يجب على كل مُفكِّر أن يتخذه مثلاً أعلى، يعمل على سيادته لخير الإنسانية.

أما موقف الدين من الثقافة الغربية فلذلك موضوع آخر، يحتاج إلى مقال آخر.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة الأزهر، ذو القعدة وذوالحجة 1382 - 223 و 224

(1) من كتاب تجديد التفكير الديني في الإسلام 149.

(2) من كتاب التفكير الديني في الإسلام ص .150

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين