استراتيجية الخلاف

بقلم المفكر الإسلامي الدكتور محمد فاروق النبهان

 

لا أقصد ألا نختلف.....
الخلاف مظهر من مظاهر التفكير المستقل وهو دليل حياة  وهو خصوبة ...
ولا أظن أننا نتطلع لمرحلة لا نرى فيها مظاهر الخلاف تبعث الحياة في جسد هذه الأمة وتدير آلية الحركة فيها لكي تكون حركتها منسجمة مع آمالها ومطامحها في تحقيق  غد أفضل نتمناه  ونتطلع إليه
ولا ينبغي لنا أن نخشى من الخلاف أو نخاف منه أو نتوجس شراً   إذا شعرنا بحركته فالخلاف بين الإخوة يبعث الحماس في النفوس ويثير لديهم مشاعر التنافس الحميد ولا أظن أننا نرفض التنافس أو نخشاه
وكل مانتمناه أن يكون خلافنا خلاف أخوة تعلو أصواتهم وتتناثر كلماتهم تبح حناجرهم ثم تستوي ملامحهم فجأة أمام خطر خارجي يتهددهم أوعابث مستهتر انتهك عليهم خلوتهم
ولا أظن أن المسافة بين أي قطر عربي وقطر آخر تتجاوز حدود المسافة بين شقيقين يضمهما حي واحد يتجاوران وإن تناءت جدران منازلهما ويعترضهما خطر واحد وإن اطمأنت الأسباب بأحدهما أو استقرت به المضاجع
وإذا كان لا بدمن الخلاف وهو حاجة ملحة في بعض الأحيان للتعبير عن استقلالية الإرادة وسيادة الرأي فإن أهم ما نتطلع إليه ونرجوه  أن يكون ذلك الخلاف ضمن استراتيجية  عربية نطلق عليها تجاوزا  "استراتيجية الخلاف"
وأقصد باستراتيجية الخلاف أن نجعل من الخلاف أداة لحركية العمل يؤدي دوره في دفع العربة العربية نحو أهدافها التي لا ينبغي أن يكون فيها أي خلاف لأن الأهداف لا يمكن أن تكون غامضة أو مجهولة إلا إذا كانت المسيرة خاطئة من البداية
و((أهمية استراتيجية الخلاف )) أنها توزع الأدوار بذكاء ودقة مراعية طبائع الأفراد وخصائص الدول ومصالحها المشروعة  بحيث يؤدي كل فرد دوره المنوط به بكفاء ة عالية وتلقائية عفوية لا تكلف بها  لأن التكلف يلغي صدق التوجه ويجعل الألوان باهتة لا تلفت الأنظار ولا تثير المشاعر
وإذا كان الخلاف مظهرا لا خيار لنا فيه في قبوله وقدرا لا إرادة لنا في دفعه فإننا نرجو أن نعتمد استراتيجية الخلاف كاستراتيجية سياسية توزع الأدوار من خلالها  لكي نصل المحطة المطلوبة  وهي محطة مهما بعدت  ستبقى موطن أهلنا نقصدها ولا نتجاوزها ونتطلع إليها ولا نخون عهدها لأنها محطة الوطن
رؤية فكرية
قد نتهم أحياناً بجموح العاطفة وقد نوصف أحيانا بالإغراق بالخيال  وكثيراً مانسمع عن الأبراج العالية التي يعيش بها أهل الثقافة والمشتغلون بقضايا الفكر وهم غالبا ما يطرحون رؤاهم الفكرية من خلال تلك الأبراج المحصنة التي تطل على الواقع ولا تعايشه تراه من بعيد ولا تسمع صوت أنينه ترى حركته من عل ولا تجد في ملامحه معالم العلة
وهذا وصف لا ينبغي لأهل الفكر أن يبرؤوا أنفسهم منه وليس فيه مايزعجهم أويسيء لدورهم وهم في ذلك الواقع المتميز أقدر أحيانا على تجسيد المشكلة ورؤية الحركة كاملة من زواياها المتعددة  وهذا ما نحتاج إليه في تجسيدنا  لحقيقة المشاكل التي نعاني منها وذلك أننا نرى من نافذة واحدة ولا نسمح لأنفسنا أن نسمع صوت الآخر و أننا لو سمحنا لأنفسنا أن نسمع وننظر من النوافذ العلوية المطلة على الساحة لاستطعنا أن نخرج بنتائج متقاربة
وتلك مزية الأبراج العلوية التي يتحصن فيها رجال الفكر أحيانا وهي أبراج تتيح لهم أن يروا كل شيء ويعلموا من الحقيقة ما لا يعلم غيرهم إلا أنهم يأبون أن يكونوا صوتا ضائعا في عكاظ جديد تتداخل فيه الأصوات وتعلو فيه الحناجر متدافعة متنافرة متنابذة ذلك عكاظ الجاهلية وعكاظ لا يكون إلا في الجاهلية فإذا انتهى عصر الجاهلية فلا عكاظ
 
تفاؤل وتشاؤم
 
((استراتيجية الخلاف)) ليست مطلباً تدفع إليه عاطفة جامحة أو خيال مغرق وإنما مطلب واقعي ومنطقي نتمنى أن يكون وأن نلتزم به وأن نختاره  وأن نقتنع بجدواه ولا أظن أننا نختلف حول الأسباب التي تدعو إلى ذلك الاختيار ذلك أننا نخشى من الخلاف أن يكون عميق الجذور ونخشى أن تسعى الأيادي الآثمة إلى تجذير ذلك الخلاف لكي يكون خلافا يتجاوز حدود ما ألفناه وعندئذ ستكون الطامة جسيمة وخطيرة وستدفع أمتنا ثمناً غالياً.
ومن واجبنا أن نتفاءل لأن التفاؤل مظهر من مظاهر تطويق الخلاف وتوفير الظروف لإنهائه ، إلا أننا اليوم نشعر بمشاعر جديدة ليست هي على وجه التأكيد هي نفس المشاعر التي كنا نحس بها من قبل ، مشاعرنا اليوم لم تعد – مع الأسف – باسمة أوضاحكة ، إنها عابسة ومقطبة ، ملامحها ليست هي التي كانت معبرة عن صفاء النفس وبراءة القلب ..
ليس من حقنا أن نتحدث عن التشاؤم ، ولايجدر بنا أن نفعل ذلك لا لأجلنا ولكن لأجل أطفالنا الذين يضحكون ملء أفواههم في كل صباح ، وينامون ملء جفونهم عند المساء ، ولكن أليس من حقنا أن نخاطب أنفسنا أحياناً ولو عن طريق الهمس : إن الغد مجهول وإن ليله لن يكون مقمراً كعادته في كل مساء ، وإنما سيكون ليلاً دامساً مظلماً عابساً ؟!
وإن من أبرز الخطوات لرسم سياسة (( استراتيجية الخلاف )) ألا نسمح للخلاف أن يتجاوز حدود ما ألفناه من مشارع الاحترام والمودة بين الشعوب العربية ، ولو سمحنا لذلك الخلاف أن يتمدد ويتطاول ويعمق فإن من الصعب علينا بعد ذلك أن نعيد رسم صفحات نقية جميلة نحن نملكها اليوم ، وقد لانملكها في الغد
هناك صفحات مطوية طواها الزمان وأماتها الإنسان لأنها صفحات سوداء قاتمة ، تلك صفحات مايجدر بنا أن نسلط الأضواء عليها لأننا بذلك نوقظ تاريخاً من الأحقاد وجيلاً من الرواسب السلبية التي تجاوزناها بفضل وعي الأجيال الماضية التي كانت تنصت قليلاً للصوت البعيد القادم من تلك الأبراج العالية حيث يقطن رجال الفكر بعيداً عن عكاظ الجاهلية ..
وإن استراتيجية الخلاف تتطلب أولاً وقبل كل شيء أن تكون المواقف واضحة ، وأن تكون الغايات محددة ، ثم بعد ذلك يكون الخلاف ، وهو خلاف لايتناول المبادئ والغايات وإنما يتوقف عند حدود الرسائل لئلا يصبح خلافاً حقيقياً يهدم مابناه الإنسان خلال أجيال ..
وأعتقد شخصياً أن الأمم والشعوب الواعية قادرة على تسخير إمكاناتها المتعددة لخدمة مصالحها الحيوية ، وإن أمتنا العربية تملك من إمكانات التكامل مايكفل لها توزيع الأدوار السياسية لخدمة مصالح هذه الأمة في مواجهة التحديات القاسية وهي تحديات لاتستهدف بلداً بعينه ولاشعباً خاصاً وإنما تستهدف هذه الأمة كاملة ..
وإن التحدي الصهيوني يعتبر من أقسى التحديات التي تواجه أمتنا في العصر الحديث ، وهذا التحدي ليس أقسى من التحديات التي واجهت أمتنا من قبل ، وليس أكثر عتواً وجبروتاً من التحديات الماضية ، ولا نبالغ إذا قلنا إنه من أقل التحديات خطورة من حيث الحجم والأثر ، فلقد كانت التحديات الصليبية المدعومة من الدول الأوروبية أكثر شراسة وقوة إلا أن خطورة التحدي الصهيوني تكمن في كونه تحدياً يستهدف الاستيطان في أرض فلسطين .
ولايكمن الخطر الصهيوني في قوته الذاتية وإنما يكمن في الدعم الذي يلقاه من الدول التي تجد في الصهيونية العالمية وسيلة لإذلال الشعوب العربية الإسلامية ، وإن الصليبية ستظل وفية لشعاراتها حاقدة على كل ما يتعلق بالعرب والإسلام
وإن الشعب العربي بما يملكه من طاقات ذاتية ، وإمكانات استراتيجية ، جغرافية ومادية وبشرية ، قادر على مواجهة ذلك التحدي ، وبخاصة وأن العالم الإسلامي يتعاطف مع العالم العربي بسبب وحدة العقيدة الإسلامية ويدعم مواقفه إلا أن تلك الرابطة الروحية تتعرض لهزات عنيفة لكي لاتكون قوة موحدة ، ولكي يفتت بعضها قدرات البعض الآخر ، في مواجهات من المتوقع أن تزداد قوة وضرواة لتنشغل بخلافاتها المفتعلة عن التطلع لتعاون مثمر مفيد ..
 
أهمية الإستراتيجة الموحدة
 
ولاشك أن وضع استراتيجية موحدة ولو كانت استراتيجة الخلاف سوف تمكن هذه البلاد من أن تجهض كل خلاف مفتعل ، وتوجه كل طاقاتها للعدو المشترك الذي لايفرق بين قطر  وآخر من حيث قوة العداء ووضوحه .
ويكفينا أن نطل على خريطة جغرافية لمنطقة العالم الإسلامي وسوف تجد أن هذه المنطقة التي عاشت قروناً متعددة في ظل التعايش والسلام قادرة على صياغة الأسلوب الأمثل لاستمرارية ذلك التعايش لكي يثمر قوة تضاعف من قدرات هذه المنطقة على مواجهة الأخطار ..
إن سياسة التسرع التي تتجلى أحياناً في معظم المواقف لاتصلح لطرح الأسلوب الأفضل للتعايش لأن من أبرز شروط التعايش أن يشعر الجميع بالأمن والاستقرار ، وأن يحترم الجميع حقوق ومشاعر الجميع ..
وإننا نشعر بأن يداً خفية مشبوهة تمتد في الظلام الدامس لتعبث بالأمن وتثير مشاعر الشك والإرتياب ، وهي يد – لاشك – غادرة حاقدة تريد أن تلهب مشاعر الحقد في إطار الوطن الواحد عابثة بالأمن متنكرة لكل قيم الفضيلة ..
وإن أمتنا اليوم تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى حكمة الحكماء وعقل العقلاء ونصيحة أهل التعقل والتبصر لكي تكون الخطوات سليمة دقيقة محققة أهدافها في إفشال المخطط المشبوه الذي يستهدف زرع بذور الفتنة في الوطن العربي كله ..
إن التحدي الصهيوني يعتبر من أقسى التحديات وأكثرها دهاء وذكاء لأنه يدرك جيداً خطورة تحدي المشاعر الإسلامية في هذه المنطقة ، ولهذا فإن من أهم مايعمل له تشجيع الصراعات القومية والطائفية في هذه المنطقة العربية في خطة ذكية لإثارة أحقاد قديمة دفنتها الأيام وأقامت صرحها عالياً من تعاون مثمر أعطى أجمل العطاء وأوفره خلال قرون
 
خطورة سياسة التسرع
 
ولا نود أن نرفع راية الاستسلام أمام مانعانيه من واقع اليوم قد يدفع أحياناً إلى اليأس إلا أن من المؤكد أن مسيرة التسرع قد قطعت أشواطاً بعيدة وحققت أهدافاً ماكان لها أن تحققها في ظل سيطرة سياسة التعقل والتبصر التي نحتاج إليها اليوم لكي تعود اللحمة قوية متماسكة قادرة على شد أطراف هذه الأمة إلى بعضها .
وإننا اليوم نحتاج إلى تلك الفئة من المفكرين والمثقفين القادرين على امتلاك ناصية الرؤية السديدة لكي يدلوا بجهدهم في عمل مخلص لتجنيب هذه الأمة منعطفاً قد لايكون يسيراً ولكي يسهموا في رفع شعار التعايش كأساس عادل لإزالة أسباب التوتر في المنطقة العربية كلها ..
ولاينبغي أن نفتح قلوبنا للتفاؤل مالم نبذل الجهد الذي يدفعنا إلى ذلك التفاؤل ، ذلك أن التفاؤل والإغراق فيه قد يدفع بصاحبه إلى الاستسلام أمام خطر مايجدر به أن نستسلم أمامه ..
وأهم مايجب أن ننطلق منه أن ندع لأنفسنا حرية الاختلاف فيما لايمس المقدسات الوطنية والدينية وأن نتعاون أجمل التعاون وأكمله في سبيل حماية بلادنا وأوطاننا ومقدساتنا من كل الأخطار الخارجية المحيطة بنا والتي تحاول أن تقتحم المضاجع في لحظات خاطفة في ليل دامس  لكي تنشر الفتنة وتثير مشاعر الشك في النفوس وتدفع مابنيناه من شواهق المنجزات لكي تتساقط جدرانه المنيعة
إننا اليوم وأكثر من أي يوم مضى نحتاج إلى عقل العقلاء وحكمة الحكماء لكي نتجاوز هذا المنعطف الصعب الذي نجتازه اليوم ولكي نتغلب بقوة الإرادة على قوة العاطفة التي تشهدها بلادنا
وأبرز مظاهر التعقل أن نختار الأسلوب الأفضل لإفشال المخطط الذي يريد تفتيت هذه المنطقة وذلك عن طريق إيمان المواطن بوطنه وثقته بقدراته على الصمود والتغلب على جميع الصعاب لكي تكون اللحمة داخل المجتمع قوية متماسكة تشد أطراف الجسم الواحد إلى بعضها وبذلك نتجاوز ذلك المنعطف ونواصل مسيرة البناء والتقدم في ظل مشاعر الطمأنينة والاستقرار

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين