شموس طرابلسية سطعت في سماء العالم الإسلامي

في الخامس من تشرين الثاني عام 1905م / 7 / رمضان 1323 هجري ، انتقل إلى رحمة الله تعالى العلامة الكبير، الشيخ عبد القادر الرافعي الحفيد، مفتي الديار المصرية ليومين فقط. 

ففي الثاني من تشرين الثاني من هذا العام (1905)، صدرت إرادة خديوية سامية بتقليده منصب الإفتاء العام للمملكة المصرية، وما إن انتشر الخبر حتى تقاطر الناس لتهنئته، وبينا هم ينتظرون عودته من سراي عابدين لأجل التهنئة، فإذا به يرجع محمولا بعيد إصابته بنوبة قلبية، ما لبث أن فارق الحياة على إثرها، فتحولت مجالس التهنئة إلى مجالس عزاء.

وهكذا لم يمكث في منصبه الجديد سوى يومين فقط، وفي اليوم الثالث صدرت الجريدة الرسمية وفيها خبر تقلده المنصب مقرونا بوفاته...

من هو الشيخ عبد القادر الرافعي الحفيد؟

والشيخ عبد القادر الرافعي الحفيد من كبار أئمة المذهب الحنفي في العالم الإسلامي، وهو من طرابلس الشام، والده الشيخ مصطفى الرافعي، ووالدته سلمى ابنة علامة عصره، الأستاذ الشهير، والقطب الكبير، والولي الصالح، الشيخ محمد رشيد الميقاتي، إمام الجامع الكبير المنصوري، والمؤقت المعتمد فيه لأوقات الصلاة، المولود سنة 1198، والمتوفى سنة 1282 عن 84 سنة رحمه الله تعالى. وجدُّه العلامة الكبير الفقيه الحنفي الشيخ عبد القادر الرافعي، قطب زمانه، وصديق الشيخ محمد رشيد الميقاتي، وصاحب المواقف المشهورة في وجه والي طرابلس يومها مصطفى بربر آغا، وكان حينما يدخل عليه يتضاءل بين يديه، على عتوه وتجبره وشدة قساوته، حتى إنه لما قيل له في ذلك، قال: «إذا دخل علي الشيخ الرافعي لا أراه إلا أسدا». 

وأخوه الأكبر الشيخ محمد الرافعي، المتوفى سنة 1280ه/ 1862م، والذي كان ذاع صيته في الديار المصرية، حيث شغل فيها مناصب عليا عدة، منها: الإفتاء في ديوان الأوقاف، ومشيخة رواق الشوام في الأزهر الشريف، ونيابة الحكم في محكمة مصر الشرعية الكبرى، والعضوية في المجلس العالي الملكي الذي أنشأه الأمير محمد علي باشا الكبير سنة 1240 ه / 1822م.

ولد الشيخ عبد القادر الحفيد سنة 1248 ه / 1830م ، وتلقى العلوم ابتداءً على علماء طرابلس، وفي مقدمتهم والده الشيخ مصطفى، وبعد أن برع في صباه توجه إلى القاهرة فوصلها في 20 ذي القعدة 1263ه / 30 / 10 / 1847م ، فما كاد يلتحق بحلقات العلم، وبخاصة حلقة أخيه الشيخ محمد، حتى ذاع صيته وظهر نبوغه، وكان مع أخيه الشيخ محمد سببا في نشر المذهب الحنفي في مصر بين أروقة الأزهر، وبعد اثنتي عشرة سنة من التحصيل في الأزهر على شيوخه بلغ فيها الذروة، عُين مدرسا في الجامع الأزهر للمذهب الحنفي، وذلك سنة 1275ه/ 1859م. وقد تتلمذ على يديه جماعة من كبار علماء مصر في زمانهم، وكبار العالم الإسلامي، أذكر منهم الطرابلسيين فقط: العلامة الكبير الشيخ حسين الجسر صاحب الرسالة الحميدية والحصون الحميدية، العلامة الشيخ يوسف النبهاني رئيس محكمة الحقوق بمدينة بيروت وصاحب التصانيف الشهيرة، والأستاذ الأديب الشيخ عبد الكريم عويضة. رحمهم الله جميعا.

وبعد وفاة شقيقه تولى وظائفه في مشيخة رواق الشوام في الأزهر الشريف، وإفتاء ديوان الأوقاف. وفي سنة 1293ه / 1876م / عين رئيسا للمجلس العلمي التابع لمحكمة مصر الكبرى الشرعية حتى سنة 1313ه / 1895م ، هذا مع زهده بالمناصب الرسمية وتمنعه عن غالبها. ثم في الرابع من رمضان عام 1323ه / الثاني من شهر تشرين الثاني 1905م / صدر القرار الخديوي بتعيينه مفتيا للديار المصرية خلفا للشيخ محمد عبده، وهذه صورة الفرمان:

فضيلتلو حضرة الأستاذ الشيخ عبد القادر الرافعي 

إنه لخُلُوِّ وظيفة إفتاء الديار المصرية، ولما هو محقق لدينا في فضيلتكم من العالمية والأهلية، قد وجهنا لعهدتكم الوظيفة المشار إليها، وأصدرنا أمرنا هذا إليكم للعلم به والقيام بما تستدعيه هذه الوظيفة المهمة من الأعمال بما هو معهود فيكم من الدراية والأمانة.

الختم

(عباس حلمي) 

ولكنه لم يمض على القرار سوى يومان حتى انتقل الشيخ إلى رحمة الله تعالى. مخلفا وراءه سيرة علمية عطرة بأمثالها كانت طرابلس مدينة العلم والعلماء..

أهم مؤلفاته وأبرز تلامذته الرافعيين:

كما خلف وراءه مجموعة من الحواشي الفقهية على أمهات كتب الفقه الحنفي، وأهمها حاشية على حاشية ابن عابدين، وكان قد درَّسها أربع مرات، أودع فيها من آرائه الفقهية، ما يدفع اِشكالات الأئمة المتقدمين والمتأخرين في بعض المسائل الفقهية، كما ضمنها انتقادات على الحاشية بلغت الألفي انتقاد، كما ألف تكملة للحاشية لأنه رأى أن ما كتبه الشيخ علاء ولد العلامة ابن عابدين من تعليقات والده في الحاشية جاء محرفا في بعض المواضع، فكان لا بد من تصحيحه.

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على إمامته وتقدمه في المذهب الحنفي. رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

وفور شيوع خبر وفاته، نعته كثير من الجرائد المحلية والعربية والأجنبية الصادرة في مصر، ومنها جريدة المؤيد، التي قالت:

«في هذا اليوم الذي تنشر فيه الجريدة الرسمية نص الأمر الكريم بتعيين إمام الفقهاء وأستاذ الأساتذة الشيخ عبد القادر الرافعي مفتيا للديار المصرية، تظهر الجرائد اليومية ناعية إياه لقرائها منبئة بالكارث العظيم والخطب الجلل الذي نزل به». 

كما نعته جريدة اللواء الأغر، مستهلة نعيها بالقول:

«ننعى اليوم للقراء الفضلَ في شخصٍ، والعلمَ في نفسٍ، والكمالَ في ذات، والتقوى في رجل، والصلاحَ في عالم، والورعَ في عامل، ألا وهو المرحوم الأستاذ الكبير الشيخ عبد القادر الرافعي الذي تعين منذ ثلاثة أيام مفتيا للديار المصرية خلفا للشيخ محمد عبده».

أما الجرائد (الإفرنجية) فكانت حريصة كل الحرص على إظهار أن إسناد المنصب إليه كان بعد موافقة اللورد كرومر ، وأنه حين وفاته كان عائدا من زيارة له إلى الوكالة الوطنية.

والشيخ عبد القادر تخرجت به غالب علماء مصر في تلك الفترة، وغالب الأسرة الرافعية، الذين تقلدوا مناصب دينية في مصر، وكانوا من أجلاء علماء الأزهر المعمور، وغالبهم توفوا قبله، منهم: 

- شقيقه العلامة الورع التقي الشيخ عمر الرافعي، أمين فتوى الديار المصرية، المتوفى في 8 محرم 1315ه / 9 / 6 / 1897م.

- والأستاذ، فقيه عصره، العلامة الكامل، المرحوم الشيخ عبد الرحمن الرافعي مفتي ثغر الاسكندرية، وصاحب الفتاوى الجليلة في الفقه الحنفي، المتوفى 15 رجب 1315ه / 9 / 1 / 1898م.

- والعالم الكامل، والكاتب البليغ، والشاعر الأديب، المرحوم الشيخ محمود سعيد الرافعي، مفتي مديرية الجيزة المتوفى في 26 ذي القعدة سنة 1310ه. / 11 / 6 / 1893م.

- والعلامة الورع الصالح الزاهد المرحوم الشيخ محمد علي الرافعي الشهير بالوليصاحب التقرير الفائق على متن الأشباه والنظائر في فقه الحنفية المتوفى سنة 1301ه / 1883م. 

- والأستاذ الهمام فقيه عصره ونادرة أوانه ومصره المرحوم الشيخ أحمد الطيب الرافعي مفتي شبين الكوم صاحب التصانيف المفيدة والتآليف العديدة، منها: تقريره الرائق المسمى دقائق الأفكار على رد المحتار للإمام ابن عابدين الشهير وهو في خمس مجلدات وصل فيه إلى كتاب الكفالة ثم اخترمته المنية قبل إتمامه. ومنها فتاوى فقهية أودع فيها ما لا يستغني عنه كل عالم عامل وجهبذ فاضل. توفي رحمه الله في شوال سنة 1300ه. 1882م.

- الأستاذ العلامة التقي النقي الشيخ عبد اللطيف الرافعي من أكابر علماء الأزهر ومفتي ثغر الاسكندرية.

- والاستاذ الهمام الشيخ عبد الرزاق الرافعي من أكابر العلماء وقاضي مديرية الغربية.

- والعالم العامل صاحب الفضل والفضائل الأستاذ الشيخ عبد الحميد الرافعي قاضي المدينة المنورة سابقا وقاضي ولاية قونية حالا (1906).

- والمرحوم الفاضل الشيخ محمد طاهر الرافعي قاضي كفر الزيات المتوفى في غرة رجب سنة 1318ه / 1900م.

- والفاضلان الهمامان الأديبان الشيخ محمد عبد الغني الرافعي من أكابر علماء مدينة طرابلس، وأخوه الشاعر النابغة عبد الحميد بك الرافعي قائم مقام بُصرى الحرير، الملقب ببلبل سوريا، المتوفى سنة 1932م.

- ومنهم ابنه الشيخ محمد رشيد الرافعي، الذي كتب ترجمة لوالده طبعت في مصر سنة 1323ه / 1906م. ومنها استقيت المعلومات الواردة في هذه المقالة مع زيادات طفيفة لضبط التواريخ.

وبعد هذه الجولة في حياة هذا العلم الرافعي، وفي بعض مآثر الدوحة الرافعية يمكننا فهم ما قاله أمير الشعر أحمد شوقي في قصيدة يقرظ فيها بلبل سوريا الشاعر عبد الحميد الرافعي:

أَعِرني النجم أو هب لي.. يراعا يزيد الرافعيين ارتفاعا

مكانُ الشمس أضوءُ أن يُحلى ... وأنبهُ في البرية أن يُذاعا

بنوا الشرق الكرام الوارثوه ... خلالَ البِرِّ والشرف اليَفاعا

تأمل شمسهم ومدى ضحاها ... تجد في كل ناحية شعاعا

قد اقتسموا ممالكه فكانت ... لهم وطنُ (الفصحى) مشاعا

هموا زادوا القضاءَ جمال وجه ... وزادوا غرة الفتيا التماعا

أبَوْا في محنة الأخلاق إلا ... لياذًا في العقيدة وامتناعا

أوَوْا شيبًا، وشبانًا إليها ... تخالهم (الصحابةَ) والتِّباعا

إذا أُسدُ الشرى شبِعتْ فعفَّتْ ... رأيت شبابهم عَفَّوْا جياعا

وهي من القصائد النادرة التي لم تنشر في ديوان الشوقيات. وهو يعرض بقوله (أبَوْا في محنة الأخلاق إلا ... لياذًا في العقيدة وامتناعا) بموقف الشيخ عبد القادر الرافعي ومن معه من تلامذته من ثورة عرابي باشا، حيث وقفوا منها موقف الرفض حرصا على دماء المسلمين. وهو الحكم الشرعي في مثل هذه الحالات. 

رحم الله تعالى تلك النفوس العظيمة، والشموس البازغة التي أبت إلا يعم شعاعها العالم. وعلى أمل أن يجود علينا زمان طرابلس بأمثالهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين