في فقه العزّة والذل

بين الذليل والذلول ثمة مسافة، فالذليل يضع كرامته ويمرّغ أنفه ويخضع نفسه رغبا ورهبا، وضريبته استسلام وسلبية وهوان واستخدام..

أما الذلول فهيّن ليّن، يداري ولا يجاري، ويتضعّف ولا يضعف!

فهو كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها أخرى، حتى تهيج..

وليس من العزّة والكرامة أن نسلك سلوك العناد والتصلّب في الوسائل والسياسات، فالفاجر أجوف لا وزن له ولا قيمة وإن انتفخ وجعجع ودوّى قرعه، وهو ذليل وإن علا وتصلّب، بل شبّهته السنْة بالأرزة الصماء إذ تبدو معتدلة فلا يفيئها شيء، حتى يكون انجعافها مرة واحدة، وتُستَحصَد، ويقصمها الله إذا شاء...

ذل النفاق في وجوههم وإن طلاها الكبر قبحا فوق قبح، ترهقهم قترة على غبرة، وإن طقطقت بها البغال ،وهملجت البراذين ، أبى الله إلا أن يذل من استعلى وتكبّر، في الدنيا، قبل أن يحشرهم يوم القيامة كأمثال الذرّ يطؤهم الناس بأقدامهم، لهوانهم وكفرانهم وبطرهم وغمطهم واحتقارهم واستخفافهم!

العزّة ليست أن ترابط في أرضك في سبيل الله، أو أن تهاجر في سبيل الله، فما دمت تهتدي السبيل فلا تثريب عليك رابطت أم هاجرت...

والذلة ليست كما وصف أحد المثبّطين من دعاة أمريكا بأن تترك الوطن وتسكن مخيمات اللجوء، فكم هي كبار تلك النفوس التي ترفض الاستسلام وإن كانت ضريبته الشهادة، والخروج في سبيل الله..

ولا هي في المقابل (واقعية) الاستسلام والضفدعة وكنا عايشين وكل من تزوّج أمي أناديه عمّي، وإن لم يكن ما تحبّ فأحبّ ما يكون، وأشباهها من عبارات التطبيع مع الرقّ والاستخفاف، في ثقافة النخاسة الرجعية!

الذل ليس قلّة أو كثرة، ولا قوة أو ضعفا، ولا مرابطة أو هجرة، ولا ثباتا أو تحيّزا إلى فئة، ولا قتالا أو هدنة، ولا مداراة أو مجاملة، ولا عنادا أو رفضا، ولا تقديما أو تأخيرا، ولا سياسة أو تغييرا، ولا تقويما أو مراجعة أو تراجعا أو تنظيرا..

ويحضرني هنا فهم المنافقين المقلوب للذل : (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ۚ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون).

وقوله فيهم حين انحازوا لمواليهم من يهود بني قينقاع: (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا).

لن يفهم العزّة من لم يفهم أنها عزْة النفس، كما الغنى غنى النفس، وكما الشديد ليس بالصرعة إنما الذي يملك النفس، وما ذلّ ولا ضعف ولا افتقر من ملك إرب نفسه، وأدار هواها تبعا لما يؤمن به، ولم يجعل إيمانه تبعا لهواها!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين