أسباب تحصيل ملَكَة العلم ووسائله

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى..وبعد:

فقد سألت أعزَّك الله عن سبب اكتمال آلة العلم عند الأستاذ العلامة محمود شاكر رحمه الله، وكيف السبيل إلى أن يحذو الطالب حذوه.

فاعلم وفقنا الله وإيَّاك أن السؤال يقع كثيراً عن أسباب الطلب ووسائله، ويقل من يشرع بعزم في استعمال هذه الوسائل، ويندر من يبلغ الغاية دون انقطاع، فما أكثر السالكين، وما أقل الواصلين، وهذا أمر مشاهد واقع وهو من آفات الطلب، وله سبب سنذكره في موضعه.

والمقصود أن الطالب أو الباحث يحتاج لتكامل أدواته وبلوغ المأمول من الطلب إلى مطالب: 

أحدها: البحث عن الذات، فينبغي له أن يفحص عن قدراته في نفسه، ويبعث الطاقة الكامنة في داخله، لأنَّ من علل التقصير عن جواد السبْق في الطلب، أن يحمّل الطالب نفسه ما لا تطيق فيدركه العجز.! 

فلابد له أن يعرف من نفسه إن كانت ميَّالة إلى التنوع أو التخصص في المعارف، وهل يطيق تلقي أكثر من فنٍ في وقت واحد أم لا، فضلا عن اكتشاف الفن الذي تميل إليه نفسه ويلائم مزاجه.؟

ومن البحث عن الذات التشوّف إلى المعارف والفنون والتلذُّذ بـها بنهمة تفوق نـهمة الطعام والشراب والنساء، ومن هنا قال سفيان الثوري: (ضاع العلم بين أفخاذ النساء).! 

وذكر عن أبي بكر بن الأنباري أن الراضي اشترى له جارية فأدخلها عليه، فقال لها ابن الأنباري: اعتزلي إلى الاستبراء، قال: وكنت أطلب مسألة، فاشتغل قلبي، فقلت للخادم: خُذها وامض بها، فليس قدرها أن تشغل قلبي عن علمي؛ فأخذها الغلام، فقالت له: دعني أكلمه بحرفين، فقالت له: أَنت رجل لك محل وعقل، وإذا أخرجتني ولم تبيِّن ذنبي، ظنَّ الناس فيَّ ظناً قبيحاً، فقال لها: مالك عندي ذنب غير أنك شغلتني عن علمي، فقالت: هذا سهل، فبلغ الراضي، فقال: لا ينبغي أَن يكون الْعلم فِي قلب أحد أحلى منه في صدر هَذَا الرجل.

ووقع هذا لابن رجب مع امرأته، والغريب أنه وقع للعلامة محمود شاكر، فإنه من نـهمته للعلم لم ينكح إلا بعد الخمسين.! وهو شيءٌ كثير في أخبارهم لا يستقصى في مثل هذا الموضع.

الثاني: تخصيص وقت للمطالعة بحيث لا ينقطع عن النظر في شيء من أوقاته ولا تخلو أيامه منه، وكان يقال: (إذا مضى على الطالب يومٌ دون بحث يـُحرّره، أو متنٍ يُراجعه، أو دفترٍ يُطالعه، فليُعد النظرَ في شرف اللقب الذي يحمله).!

وعن بقي بن مخلد: (ما كانوا يطلبون العلمَ كطلبكم له، تشتغلون عنه بغيره، حتى إذا وجدتم له فراغاً تشاغلتم به، كانوا يشتغلون بالعلم حتى إذا وجدوا فراغاً لغيره تشاغلوا عنه به).!

وقيل: إن أبا الوليد بن رشد الحفيد ما قطع النظر في الكتب إلا يوم وفاة والده ويوم بنائه بأهله! وهذا المعنى كثير في سير السلف والأئمة.

الثالث: أن يضع خطةً للطلب، يرتِّب فيها ما يدرسه ويطالعه ويحفظه، فليس ينبغي له أن يقتحم هذا المهيع جزافاً دون منهج يسير على وفقه، وذلك أن المعرفة تراكمية مكتسبة، وإنـما تنال بطول الزمان كما قال الزهري: (من طلب العلم جملة فاته جملة، ولكن مع الأيام والليالي). 

ولا يخلو العلامة شاكر فضلاً عمَّن هو فوقه عن هذا، فمعارفهم في آخر العمر ليست كهي في ابتداء الطلب، حتى في الفهم والدربة على الملكة العلمية. 

وعندي أن مقصود الأستاذين حساني وأبو موسى في إطلاق أن شاكر ولد متكامل الأدوات، أنَّ الرجل قد حصل من آلة العلم وملكته المعرفية في مبدأ أمره، وقبيل الخوض في التصنيف والتصدر للإفادة، ما ينهض به لـمزاحمة الكبار، فرسخ علمه وثبت قلمه، كغيره من الكبار كالراجكوتي وغيره، بخلاف غيره من أقرانه الذين هجموا على التصدُّر والتأليف، قبل استحكام الملكة واستجماع الشرائط، فخبطوا فيه خبط عشواء.!

الرابع: العناية بالعربية، وإنـما يبلغ الباحث أن يكون متكامل الآلة المعرفية إذا أتقن فنون العربية وآدابـها، ومن هنا قال الشافعي كما حكاه الحافظ أبو بكر البيهقي في (مناقبه): (أصحاب العربية جنّ الإنس يبصرون ما لا يبصر غيرهم). 

وقد قال أبو عمر الجرمي النحوي: (أنا مذ ثلاثون سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه).! فحدث بـهذا أبا العباس المبرد على سبيل التعجب والإنكار، فقال المبرد: أنا سمعت الجرمي يقول هذا، وذاك أن أبا عمر صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقَّه في الدين والحديث، إذ كان كتاب سيبويه يُتعلَّم منه النظر والتفتيش. 

ذكره أبو القاسم الزجاجي في (مجالسه) وذكر عن أبي عمر الجرمي أيضاً أنه كان يوماً في مجلسه وبحضرته جماعة من الفقهاء فقال لهم: سلوني عمَّا شئتم من الفقه، فإني أُجيبكم على قياس النحو، فقالوا له: ما تقول في رجل سها في الصلاة فسجد سجدتي السهو فسها.؟ فقال: لا شيء عليه، قالوا له: من أين قلت ذلك.؟ قال: أخذته من باب الترخيم، لأن المرخّم لا يُرخّم.

ونظير هذه الحكاية وقعت للفراء مع محمد بن الحسن الشيباني، وهو مصداق قول الكسائي في تقريظ النحو:

إنما النحو قياس يُتّبع....وبه في كلّ علمٍ يُنتفع

واعلم أن التوسع في العربية وآدابـها كما عليه العلامة شاكر والإمام الطاهر بن عاشور ونظرائهما، هو جوهر اكتمال الآلة المعرفية والملكة العلمية، ويُذكر عن ابن عاشور أنه مسح لغة العرب.! 

ومن غرائب أخبار الأستاذ شاكر في هذا المعنى، أن بعض المغاربة حين قدموا عليه، وكان فيهم فاضل مشارك في العلوم يقال له الجطلاوي، فلمَّا سلّموا عليه وعرّفوه بالجطلاوي، بادره الأستاذ شاكر منكراً: ألا تعلم أنه ليس في لغة العرب (جطل).! فوجد الرجل في نفسه، ورجع إلى داره ونشر المعاجم بحثاً عن مادة (جطل) فلم يظفر بشيء يعارض به الأستاذ، وإن كان قد وُجد لذلك أصل كما ذكرناه في غير هذا الموضع، لكنه في الجملة دالٌّ على سعة اطلاع شاكر وتمكنه.

الخامس: أن يتعانى الحفظ، وهو قطب الرَّحى، وعلى قدره يشرف قدر الطالب وينبغ في العلم، وبـسبب هجران الطلبة له ونُفرتـهم عنه لوعورة مسلكه، فإنـهم إما أن يدعوا الطلب جملة، أو يعانونه عبثاً دون جدوى على حدّ المصطلح العسكري (مكانك راوح).!

وقال شعبة كما في (النبلاء) وقد رأى مجلسه امتلأ بالطلبة: (ترى هؤلاء كلهم يخرجون محدّثين).؟ ثم قال: (لا يخرج منهم خمسة.! يكتب أحدهم في صغره، ثم إذا كبر تركه).! 

يريد: أنه يترك حفظ ما جمعه من الشيوخ من العلم فيذهب عليه، أو يذهل عنه بكثرة الصوارف والشواغل، أو يعجز عن حفظه ولا يريد أن يُتعبَ نفسه به، وبالتالي يستشعر أن زمانه الذي قضاه في الطلب قد ذهب هدراً دون طائل، فيترك الطلب ويهجره.

وقد سُئل شيخنا المحدّث طارق عوض الله المصري عن سبب قلّة النابغين في العلم، مع كثرة الطلبة وازدحامهم في مجالس الشيوخ؟! فأجاب بالعامية (لأنـهم سَمّيعة) يريد: أنـهم لا يعتنون بحفظ ما يلقى عليهم من الدروس، ويكتفون بالسماع.

وهذا باب يتّسع الكلام فيه، وقد جُرّدتْ فيه مصنفات موعبة، ولي فيه جزء مفرد لطيف عنوانه (زنبيل العلم) نشر في موقع رابطة العلماء السوريين، في الكلام على وسائل الحفظ وأنواعه وطرقه، فليرجع إليه هــــنا 

واعلم أن الحفظ نوعان فتخيّر لنفسك ما تستروح له، أحدهما: حفظ المتون مع استشراح ألفاظها وتفهّم معانيها، والثاني: حفظ الأصول وأعني به أن تعمد إلى كتاب في الفن الذي ترومه، يكون أصلاً موثوقاً به جامعاً في الفن، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل، فتجعله أنسك وتحله من نفسك، فتكرر النظر فيه وتديم مطالعته، حتى ترسخ مسائله في ذهنك لفظاً ومعنى، وهذه الطريقة عندي أجود من الأولى وأقرب إلى تحصيل الملكة وتكامل الآلة.

وكان قدماء العلماء عليها قبل المتون، ولذا كانوا أقرب إلى الاجتهاد والتفنن في ضروب المعارف وصنوف العلم، حتى إن منهم من غلب عليه النظر في كتاب فحفظه بلفظه ومعناه على ضخامة حجمه، كأبي العلاء الهمذاني الذي حفظ (الجمهرة) لابن دريد، وأبي بكر الأبـهري الذي قرأ (كتاب ابن عبد الحكم) ثلاثمائة مرة، والعمراني الذي كان يطالع (الـمهذَّب) لأبي إسحق الشيرازي كل ليلة قبل أن ينام، وقد ذكرنا في (زنبيل العلم) من الشواهد على هذا الأصل، ما يغني عن تكراره، فلينظر هناك.

وثم مهم آخر يتصل بعلاقة الحفظ بتنمية ملكة الطالب المعرفية وتكاملها، وهي أن العلم إنما هو استدعاء للموروث، ومحاكاة للمألوف، فيقيس النبيه على مثال ما حصّل وحفظ، ويخرّج عليه، فتتكامل ملكته مع التكرار، ولذا قالوا في صناعة الشعر والشعراء: احفظ ألف بيت ثم تناساها، ثم قل الشعر على مثالها، وانسج على منوالها، فتكون أشعر الناس.!

وهذا صحيح جداً، ألا ترى أن أهل الفن يحاكي بعضهم بعضاً، فابن الأنباري وقطرب وغيرهما في علل النحو إنما حاكوا الفقهاء في علل الأقيسة، حتى إن بعض النحاة كأبي جعفر بن مضاء وأبي حيان وغيرهما، حاكوا الظاهرية في الفقه الذين نفوا التعليل في أحكام الشارع، فصنف هؤلاء في ردّ علل النحو، كما صنع ابن مضاء في كتاب (الرد على النحاة).!

وهذا الجلال السيوطي حاكى في (جمع الجوامع النحوي) طريقة التاج السبكي في (جمع الجوامع الأصلي) وكذا سلك نحو ذلك في (المزهر) طريقة الأصوليين فاستدعاها في وضع أصول اللغة، ونظيره (الأشباه والنظائر النحوية) له، محاكاة لـ(الأشباه والنظائر) في الفقه.! 

ولذا يرغب أهل العلم في مداومة النظر في الكتب القديمة التي تنمو بـها الملَكَة، ويقوّم بـها اللسان، وتربو بـها اللغة، وإياك وكتب بعض المعاصرين التي هي عن لغة العلم بـمعزل، حتى إن الناظر فيها يتهيَّأ له أنـها لغة الإعلام والمجلات.! فإذا كثر نظره فيها فسدت سليقته، وضعفت ملكته، لأنَّ الأمر كما مرّ محاكاة واستدعاء، فتنبّه. 

السادس: لزوم الشيوخ ومزاحمتهم بالركب، ولا ريب أنه عسر في زماننا لندرة من يتصدّر منهم لإفادة الطلبة ونفعهم، وإن وجد فأكثرهم يضيع العمر معه دون طائل، فإن تـهيّأ لك هذا وإلا اجتهد لنفسك، كما قال الإمام العلامة الـمحقق ابن عرفة التونسي:

إذا لم يكنْ في مجلس الدرس نكتةٌ...وتقريرُ إيضاحٍ لـمُشكلِ صورةِ

وعزو غريبِ النقلِ أو فتحُ مقفلٍ.....أو اشكالٌ أبدَتْهُ نتيجةُ فكرةِ

فدعْ سعيَه وانظرْ لنفسِكَ واجتهدْ.......وإيَّاكَ ترْكاً فهو أقبحُ خُلّةِ

السابع: الاشتغال بالتَّصنيف الذي يطلعك على حقائق العلوم ودقائقها، ومن أهل العلم كالنووي من جعل تحصيله في العلم تصنيفاً فيه، وتصنيفه فيه تحصيلاً له، ولذا كانوا يصنفون لأنفسهم قبل الناس، ولا سيما اختصار المطوَّلات، واعتصار فوائدها لتحفظ.

على أن الظاهر من سؤالك أنَّ أصل الملكة المعرفية متوافرة عندك، حاضرة في أسلوبك، ولا يحتاج الأمر معك إلا إلى تنميتها مع الليالي والأيام، فأرى أن تجمع همَّتك وتشحذ عزمك، وتقبل على الخير إقبال العُود المطافل، لا تلوي على غير ورود الـمناهل.

فضع لنفسك جدولاً للحفظ ولو في ساعات من النهار، ولو لم يكن للخطة والجدول من الفائدة إلا أنه يردّك إلى العلم ويقيّدك به، مهما شُغلتَ عنه.

ولتشمل هذه الخطة وقتاً أغلبياً للحفظ كأن يكون أربعة أيام للحفظ، ووقتا آخر للمراجعة التي من غيرها كأنك لم تصنع شيئاً، ولتكن في يومين من آخر الأسبوع، واجعل يوم الجمعة للراحة التي لا بد للنفس منها.

وإياك أن تُكثر من المحفوظ، فقد كان أبو حنيفة وهو فقيه الملة والدنيا، لا يزيد على تحفّظ ثلاث مسائل في اليوم مع تفهّم دلائلها، وقد بسطنا الكلام على هذا الأصل في (جزء الزنبيل).

ولابد أن تنتقي في كل علم كتاباً يكون وسطاً في بابه، ليس بالطويل المملّ ولا بالقصير المخل، ثم تدمن مطالعته والتكرار عليه حسب الجدول بحيث ترسخ مسائله في ذهنك، وهكذا تنتقي في كل فن أصلاً معتمداً في بابه وتعوّل على استيعاب مسائله، إلا إن أشكل عليك منه شيء بحثت في المطولات وسألت أهل العلم عنه.

وفقك الله ونفع بك، وسلك بك سبيل العلماء العاملين، آمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين