مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (72)

(وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ)[البقرة: 83]

السؤال الأول:

ما الفرق بين (وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ) [البقرة:83] و(وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ) [النساء:36]؟

الجواب:

1ـ لدينا آيتان، الأولى تتحدث عن اليهود، وهي قوله تعالى: (وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ) [البقرة:83]؟ وفيها (ذي القربى) بدون باء.

و الآية الثانية تتحدث عن المسلمين، وهي قوله تعالى: (وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ) [النساء:36] وفيها (بذي الْقُرْبَى) مع الباء.

هل هذه الباء زائدة وليس لها معنى؟ في الحقيقة لا؛ فرب العالمين بهذه الباء يرسم ما هومستقبل القربى عند اليهود وما هو مستقبل القربى عند المسلمين، أي: الترابط الأسري، والتناسب الخَلقي ومدى مسؤولية كل واحد في الأسرة.

ورب العالمين يعلم مقدماً أنه ما من أمة على وجه الأرض سوف تصل إلى ما وصل إليه المسلمون من العناية بالرحم و بالقربى، والكل يشهد بذلك، ونحن لا يوجد لدينا من يترك أمه وأباه في الملجأ، ولا يوجد من لا يعرف عمه أو خاله، أو من لا يعرف أباه أو جده، هذا مستحيل، في حين نجد عكس ذلك في بقية الأمم خاصة في أيامنا هذه.

فرب العالمين عز وجل عندما ترك الباء بهذه الآية [البقرة 83] وأثبتها في آية [النساء 36] أشار بذلك إلى أنّ هذه الأمة وحدها هي التي سوف تُعنى بالأرحام والأقارب والوالدين والتماسك الأسري مع الأعمام والأخوال والأجداد والجدات.

هذا هو أثر الباء، ووجودها في آية المسلمين وحذفها من آية أخرى لغير المسلمين. 

2ـ في آية البقرة ذُكرت الباء مع (وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا) [البقرة:83] وحُذفت مع كلمة (وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ) [البقرة:83] وأمّا في آية النساء فقد ذكرت الباء مع الوالدين وذي القربى.

3ـ السياق في سورة النساء هو الكلام عن القرابات من أول السورة إلى آخرها، وليس في هذه الآية فقط؛ لذلك كان ذكر الباء مع ذي القربى في هذه الآية لمراعاة التفصيل والتوكيد.

وأمّا آية سورة البقرة فليس السياق في القرابات، وإنما عما مضى من أخذ ميثاق بني إسرائيل فحُذفت الباء في (وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ) مراعاة للاختصار.

والله أعلم.

السؤال الثاني:

المطلوب إعطاء مختصر عن أهم النقاط في تفسير آية البقرة 83؟

الجواب:

1ـ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (يعبدون) بالياء على أنهم غيب أخبر عنهم, والباقون بالتاء على أنهم مخاطبون، والاختيار التاء.

2ـ في قوله تعالى: (تَعۡبُدُونَ) من الإعراب على خمسة وجوه:

آـ على الرفع بتقدير: بأنْ لا يعبدوا , إلا أنه لما أُسقطت (أن) رُفِعَ الفعل، كما قال طَرَفَة: 

ألا أيُّهذا اللائمي أحضـرَ الوغـــى=وأن أشهدَ اللَّذاتِ هل أنت مُخلِدِي

فأراد (أنْ أحضر) ولذلك عطف عليه (أنْ أشهد)، وأجاز هذا الوجه الأخفش والفراء والزجّاج.

ب ـ موضعه رفع على أنه جواب القسم، كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون, وهذا الوجه أجازه المبرد والكسائي والفراء وأحد قولي الأخفش.

ج ـ في موضع نصب حال على تقدير: أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله.

د ـ قول الفراء أنّ موضع (لا تعبدون) على النهي، إلا أنه جاء على لفظ الخبر، كقوله تعالى (لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا) [البقرة:233].

هـ ـ التقدير: أنْ لا تعبدوا، وتكون (أنْ) مع الفعل بدلاً عن الميثاق.

3ـ هذا الميثاق يدل على تمام ما لا بدّ منه في الدين , وهذا الميثاق هو من أصول الدين وشرائعه التي أمر الله بها عباده في كل رسالة, فلم يدخلها النسخ , وهذا الميثاق مكون من عشرة بنود وهي: الإيمان بالله وحده ـ بر الوالدين ـ الإحسان إلى الأقارب والأرحام ـ الإحسان إلى اليتامى ـ الإحسان إلى المساكين ـ مخاطبة الناس بالكلام الطيب ـ المحافظة على الصلاة ـ إخراج الزكاة ـ ألا يسفك بعضهم دماء بعض ـ ألا يخرج بعضهم بعضاً من داره.( البقرة 83 ـ 84 ).

4ـ قوله تعالى: (وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا) [البقرة:83] انتصب بتقدير: أحسنوا بالوالدين إحساناً، أو: وصيناهم بالوالدين، أو بتقدير: أنْ تعبدوا وتحسنوا.

5ـ أردف الحق عبادته بالإحسان إلى الوالدين، وذلك:

آـ نعمة الله على العبد أعظم النعم، ثم نعمة الوالدين.

ب ـ الله سبحانه هو الموجد والمؤثر الحقيقي للعبد، والوالدان هما المؤثر بحسب العرف الظاهر.

ج ـ لبيان عظم حقهما على الولد.

6ـ قوله تعالى: (وَٱلۡيَتَٰمَىٰ) [البقرة:83] اليتيم الذي مات أبوه حتى يبلغ الحلم، وجمعه أيتام ويتامى، ولا يقال لمن ماتت أمه: إنه يتيم , أمّا في غير الإنسان فيُتمه من قِبَلِ أمِّه.

7ـ قوله تعالى: (وَٱلۡمَسَٰكِينِ) [البقرة:83] جمع مسكين، أُخذ من السكون كأنّ الفقر قد سكنه، وهو أشد فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة, وقيل غير ذلك.

وتأخرت درجتهم عن اليتامى؛ لأنّ المسكين قد ينتفع به في الاستخدام والميل إلى مخالطته أكثر من الميل إلى مخالطة اليتامى؛ ولأنّ المسكين يمكنه الاشتغال بتعهد نفسه ومصالح معيشته أكثر من اليتيم.

8ـ قوله تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا) [البقرة:83] أي: قولاً حسناً، لكنه جاء بصيغة الصفة المشبهة كقولك: رجل عدل, ليكون التقدير: ليكن قولكم للناس هو الحُسن بذاته.

وهذا القول خطاب بعد الإخبار على طريقة الالتفات، كقوله تعالى (حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ) [يونس:22].

والكلام مع الناس سواء كان في الأمور الدينية أو الدنيوية الأفضل أنْ يكون بالتلطف. 

9ـ قوله تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ) [البقرة:83] وفيه وجوه:

آـ أنّ المقصود من تقدم من بني إسرائيل.

ب ـ أنه خطاب لمن كان في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ج ـ المراد بقوله: (ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ) [البقرة:83] من تقدم، وقوله: (وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ) [البقرة:83] من تأخر. والله أعلم.

السؤال الثالث:

استعمل القرآن في سياق الدعاء والبر للوالدين لفظة (ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ) [النساء:135] دون لفظة (الأبوين) فما دلالة ذلك؟

الجواب:

الوالدان مثنى الوالد والوالدة, وهو تغليب للمذكر كعادة العرب في التغليب؛ إذ يغلّبون المذكر كالشمس والقمر يقولون عنهما (القمران)، والأبوان هما الأب والأم، ولكنه غلّب المذكر ولو غلب الوالدة لقال: الوالدتان، وسواء قال: بأبويه أو بوالديه فهو تغليب للمذكر.

لكنك لا تجد في القرآن الكريم البر أو الدعاء أو التوصية إلا بذكر الوالدين لا الأبوين كما في الآيات المذكورة أعلاه.

ولم يرد استعمال (الأبوين) إلا مرة واحدة في المواريث؛ لأنّ نصيب الأب أكبر من نصيب الأم أو التساوي في الأنصبة, لكنْ في البر والتوصية والدعاء لم يأت إلا بلفظ الوالدين إلماحاً إلى أنّ نصيب الأم ينبغي أنْ يكون أكثر من نصيب الأب.

كما أنّ لفظ (الأبوين) قد يأتي للجدين، كما قال تعالى: (كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ) [يوسف:6] ويأتي لآدم وحواء: (كَمَآ أَخۡرَجَ أَبَوَيۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ) [الأعراف:27] فاختيار (الوالدين) له دلالات مهمة، وينطبق هذا على وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصحابي الذي سأله: من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك» فأعطى كلا منهما على قدر ما قدم.

قد تقول: إنّ هذا الأمر تخلّف في قصة سيدنا يوسف عليه السلام عندما قال: (وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ) [يوسف:100] فاختار الأبوين , والجواب أنّ الأمر لم يختلف، وبيان ذلك: 

آ ـ في قصة يوسف لم يرد ذكر للأم مطلقاً، بل ورد ذكر الأب الحزين الذي فقد ابنه وذهب بصره.

ب ـ في هذا الاختيار أيضاً تكريم للأم؛ لأنّ العادة أنْ يكرم الابن أبويه وليس أنْ يكرم الأبوان الابن، وسجود التكريم حصل من الأبوين للابن، ولذلك جاء بلفظ الأبوين لا الوالدين إكراماً للأم، فلم يقل: (ورفع والديه).

ج ـ وفيها إلماحٌ أنّ العرش ينبغي أنْ يكون للرجال.

وهذا يناسب ما ذكر عن الأب فهو الأنسب من كل ناحية.

وهنا يرد سؤال: لماذا لم يرد ذكر الأم في قصة يوسف مع أنّ الأم هي التي تتأثر وتتألم وتحزن أكثر؟ والجواب: أنّ الأم إمّا أنْ تكون قد توفيت من قبل على بعض الروايات، أو أنّ أم يوسف هي أم ليوسف وأخيه بنيامين فقط وليست أم بقية الإخوة, لذلك يكون كلامها حساساً مع إخوته, أمّا يعقوب عليه السلام فهو أبوهم جميعاً، فإذا عاتبهم أو كلمهم فهو أبوهم , أمّا الأم فليست أمهم فإذا تكلمت ففي الأمر حساسية وهذا من حسن تقديرها للأمور، فكتمت ما في نفسها وأخفت لوعتها وتركت الأب يتصرف، وهذا من حسن التقدير والأدب.

السؤال الرابع:

وردت كلمة (إِحۡسَانٗا) [البقرة:83] وكلمة (حُسۡنٗاۖ) [العنكبوت: 8] في سياق الدعاء للوالدين، فما الفرق بينهما؟

الجواب:

الله سبحانه وتعالى في جميع القرآن الكريم إذا أمر بالبر والدعاء يستعمل الوالدين وليس الأبوين، ولم يستعمل الأبوين إلا في موضوع المواريث أو في أمور أخرى, ولم يذكر في القرآن موقف بر أو دعاء إلا بلفظ الوالدين, وهو مثنى الوالد مع تغليب المذكر, ومشتقة من الولادة والولادة تقوم بها الأم، وهذه إشارة إلى أنّ البر بالأم أولى قبل الأب، كما جاء في الحديث الشريف: «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك».

وقد وردت كلمة الوالدين بالدعاء لهما في سبع آيات يمكن الاطلاع عليها من خلال الجدول التــالي:

البيـــــان:

أولاً:

هذه الدراسة أو المقارنة هي لآيات الوالدين في [العنكبوت والأحقاف ولقمان] فقط ونلاحظ ما يلي:

1ـ المراتب: الإحسان أعلى من الحُسن , فأنْ تعامل إنساناً بحُسنٍ أمرٌ عادي لكن أنْ تحسن إليه هذه مرتبة أعلى من الحُسن؛ لأنّ الإحسان يتعدى خيره للآخرين، تقول: أحسنت إليه.

2ـ حُسناً: مصدر حَسُنَ، وهو فعل لازم، تقول: حَسُنَ الشيء في نفسه, وإحساناً مصدر أحْسَنَ، فعلٌ متعدٍّ، تقول: أحسنت إليه, فالكلمتان حُسناً وإحساناً مصدران مختلفان لفعلين مختلفين, لكنّ (إحساناً) أعلى من(حسناً)، والإحسان أمكن من الحُسن في فعل الخير ونفع الآخرين.

3ـ نلاحظ ما يلي: 

آ ـ ذكر في آية الأحقاف أمرين: الحمل والوضع، وكلاهما كُره ومشقة, واستعمل: إحساناً.

ب ـ في آية العنكبوت: لم يذكر الحمل أصلاً ولا الوضع، واستعمل: حسناً.

ج ـ في آية لقمان: ذكر الحمل فقط ولم يذكر الوضع، ولم يستعمل حسناً أو إحساناً.

النتيجة: الوضع الأصعب في آية الأحقاف فناسب (إحساناً)؛ لأنها أعلى من (حسناً).

4ـ في الأحقاف الوالدان مؤمنان، وفي العنكبوت ولقمان الوالدان كافران, وبالتالي الوالدان المؤمنان يستحقان الإحسان أكثر من الوالدين الكافرين؛ فناسب في الأحقاف (إحساناً).

ثانياً ـ مقارنة بين آيتي لقمان وآية العنكبوت(حالة الوالدين في الآيتين مشركان):

1ـ في آية لقمان لم يذكر (حسناً) أو (إحساناً)، وإنما بيّن الحيثيات والمصاحبة, وذكر فيها:

آ ـ الوالدان مشركان أشد كفراً بسبب الفقرة التالية، وهي: 

ب ـ المجاهدة من كليهما بصيغة الاستعلاء (عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ) [لقمان:15] وكأنها شرط، وفيها معنى شدة الحمل على الشيء وشدة الحمل على المجاهدة وهي أقوى من (لتشرك) التي تفيد بيان الغرض والتعليل.

ج ـ سياق السورة في آداب المصاحبة من الابن للأب وبالعكس؛ ومع الوالدين ومع المجتمع ؛ وتشمل هذه الآداب: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعدم التكبر عليهم، وعدم الاختيال.

2ـ في آية العنكبوت: ذكر (حُسناً) وذكر فيها:

آ ـ الوالدان مشركان.

ب ـ المجاهدة من كليهما بصيغة (لِتُشۡرِكَ) [العنكبوت:8] اللام للتعليل, فهي أقل من (عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ).

ج ـ لم يذكر المصاحبة.

فناسب في لقمان طلب حسن المصاحبة في الدنيا انسجاماً مع طابع السورة, وناسب في العنكبوت (بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ) [العنكبوت:8]. 

والنتيجة من استعراض آيات العنكبوت والأحقاف ولقمان من ناحية السياق أو من ناحية واقع الوالدين أنّ المناسب هو: الحُسن في العنكبوت والإحسان في الأحقاف والمصاحبة بالمعروف في لقمان, والله أعلم.

هذا الموضوع هوملخص رأي الدكتور فاضل صالح السامرائي حفظه الله ورعاه.

وأما رأي الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى فهو التالي حول تفسير آية لقمان [14، 15]:

آ ـ قال: (وَوَصَّيۡنَا) [لقمان:14] ولم يقل: (وأوصينا)؛ لأنّ القرآن يستعمل التشديد إذا كان أمر الوصية شديداً ومهماً؛ لذلك يستعمل (وصّى) في أمور الدين، وفي الأمور المعنوية، والفعل المشدد يفيد التكرار؛ أي: يفيد استمرار الإحسان والبر بالوالدين.

ب ـ بالرغم أنّ الوصية بالوالدين، إلا أنّ حيثيات الوصية خاصة بالأم (حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ) [لقمان:14] فلم يذكر شيئا عن دور الأب، والسبب ـ والله أعلم ـ أنّ الله أراد أنْ يذكرنا بدور الأم خاصة؛ لأنها تصنع لك وأنت صغيرٌ لا تدرك ما تصنعه؛ فهو مستور عنك لا تعرفه, أمّا أفعال الأب وصنعه لك فجاء حال كِبَرِك وإدراكك للأمور من حولك ,فالابن يعرف ما قدّم أبوه من أجله، فدور الأب ظاهر على خلاف دور الأم؛ لذلك ذكره الله تعالى هنا (حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ) [لقمان:14] ويأتي من يقول: أليس الابن نتيجة التقاء الأب والأم فهما فيه سواء؟ فنقول: بلى، ولكنّ مشقة الأم فيه أوضح أثناء الحمل وعند الولادة, ولولا أنْ الله ربط النسل بالشهوة لزهد الناس فيه لما تتحمله الأم من مشاق، ولما يتحمله الأب من تبعات الأولاد.

ونعرف قصة المرأة التي ذهبت تقاضي زوجها؛ لأنه يريد أنْ يأخذ ولدها منها، فقالت للقاضي وقد قال لها: أليس الولد ولدكما معاً؟ قالت: بلى، ولكن حَمَلَه خِفّاً ووضعه شهوة، وحملتُه وهناً ووضعته كرهاً فحكم لها.

ومعنى: (وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ) [لقمان:14] أي: ضعفاً على ضعف، فاجتمع للمرأة ضعفها الذاتي مع ضعفٍ بسبب الجنين الذي يتغذى منها ويكبر في أحشائها يوماً بعد يوم، ومن حكمة الله في خلق الرحم أنْ جعله قابلاً للتمدد والاتساع ليحتوي الجنين في مراحل نموه إلى أن يزيد الجنين زيادة لا يتحملها اتساع الرحم فينفجر إيذاناً بولادة إنسان جديد له مقومات حياة مستقلة غير متصل بأمه بعد أنْ كان تابعاً لأمه في غذائه وفي تنفسه، ومن العجيب أنّ الرحم يتسع بقدرة الله لعدة توائم كما نرى ونسمع.

ج ـ ثم قال تعالى: (أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ) [لقمان:14] فالله هو المستحق للشكر أولاً؛ لأنه سبحانه هو الذي أنشأ من عدم وأمدَّ من عدم، ثم للوالدين لأنهما السبب الظاهري في الإيجاد وإنشاء الولد, وأنت لا تحسن شكر الله الخالق الأول والمسبب الأعلى حتى تحسن شكر الوالدين وهما السبب الثاني في وجودك.

د ـ ذكرت الآية الحمل والفصال، أي: الفطام، وبين الحمل والفطام كانت الولادة من الأم الوالدة؛ لذلك كانت الآيات التي تتحدث عن البر أو الدعاء أو التوصية للوالدين بصيغة الوالدين للتذكير بالأم التي كانت قد ولدتك، ومن هنا كان الاختيار لكلمة الوالدين دون الأبوين.

هـ ـ في هذه الآية جاءت الوصية للوالدين دون ذكرٍ لهاتين الكلمتين (حُسۡنٗاۖ) و(إِحۡسَانٗا)بل ذكر فيها حيثيات هذه الوصية وأسبابها وعللها. 

وـ في خمس آيات وردت كلمة (إِحۡسَانٗا) وهي المذكورة في الآيات أعلاه في سور [ البقرة و النساء والأنعام والإسراء والأحقاف ] بينما وردت كلمة (حُسۡنٗاۖ) في آية واحدة في سورة العنكبوت.

لكن ما الفرق بين (إِحۡسَانٗا) و(حُسۡنٗاۖ)؟ 

الفرق: أنّ الإحسان مصدر أحسن، أي: الوصية بالإحسان إليهما. تقول: أحسن فلان لفلان إحساناً, أما حُسنا فمن الحُسن وهو المصدر الأصيل لهذه المادة (حَسُن) أي: أوصيك أنْ تعمل لهم الحُسن ذاته، كما تقول: فلان عادل , فوصفته بالعدل فإنْ أردت أنْ تبالغ في هذا الوصف تقول: فلان عدل، أي: في ذاته لا مجرد وصف له، أي: كأنّ العدل تمثَّل به، وكذلك رجل صومٌ لا صائم، وهذا يسمى الوصف بالمصدر، لذلك نسمي: الكاتب بالعدل، ولا نسميه: الكاتب العادل.

إذن: (حسناً)آكد في الوصف من (إحساناً), فلماذا جاءت في هذه الآية فقط: (وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ) [العنكبوت:8] قالوا: لأنّ هذه الآية تتعرض لمسألة صعبة تمس قمة العقيدة فسوف يطلب الوالدان من الابن أنْ يشرك بالله ؛ لذا احتاج الأمر أنْ يوصى الابن بالحُسن في ذاته وفي أسمى توكيداته (حُسۡنٗاۖ) حتى لا يظن الابن أنّ دعوة الوالدين إياه إلى الشرك مبرر لإهانتهما أو التخلي عنهما، لذلك يعلمنا ربنا أنْ يكون الموقف كما في الآية 15 من سورة لقمان (فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ) [لقمان:15].والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين