البلاغةُ النبويَّة

يقصدُ كلُّ خطيبٍ أو شاعرٍ ناحيةً من نواحي كمالِ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فيصفها، ويُذكِّر الناسَ بها؛ ليزدادوا إيماناً بأنه - عليه الصلاة والسلام - قد بلغ الغاية التي لا تُدرك إلا بعناية إلهيَّة خاصة، وليتخذها طلاب السيادة في الدنيا، والسعادة في الآخرة، المثل الأعلى، يتأسَّونَ به، ويسيرون في ضوئه.

ومن أعظم ما يبهرُ العقول من خصال كماله صلى الله عليه وآله وسلم: خصلة فَصاحتِه وبلاغته.

لا يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا إلى حق، ولا ينطق إلا بحكمة، وأعطي مع هذه العصمة أسمى ما يمكن أن يصل إليه البشر من فصاحة وحسن بيان؛ فإنَّ الحكمة التي تُلقى في أسلوب بليغ، تنفذُ إلى القلوب قبل أن تنفذ إليها الحكمة التي تُلقى في عبارة غير بليغة، وإنَّ الحق ليعتمد على الحُجَّة، ولكنَّ حُسْنَ البيان يسعد الحجَّة في جعل الحق أقربَ إلى النفوس، وأنفذ في القلوب، وقد طلب موسى عليه السلام من الله تعالى أن يُرسل معه أخاه هارون؛ ليشدَّ أزره بفصاحة لسانه، وحُسْنِ بيانه، فقال: { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا } [القصص: 34].

لفصاحة رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم وحُسن بيانه بعد الفيض الإلهي أسباب، منها: أنه قُرَشي، وقريش أفصح العرب لساناً، وأبرعها بياناً، وأنَّه نشأ في بني سعد؛ حيث استرضع فيهم، وبنو سعد من أرقى قبائل العرب فصاحة، وبذلك جمع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بين جزالة كلام البادية، ورونق كلام الحاضرة.

ولنزول القرآن الكريم عليه، وهو البالغ مرتبة الإعجاز، أثر كبير في سمو فصاحته: 

عن مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ يَعْنِي التَّمِيمِيَّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ دَجْنٍ (1): " كَيْفَ تَرَوْنَ بَواسِقَهَا؟ (2)" قَالُوا: مَا أَحْسَنَهَا وَأَشَدَّ تَزاحمَهَا قَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ قَوَاعِدَهَا؟ (3)" قَالُوا: مَا أَحْسَنَهَا وَأَشَدَّ تَمَكُّنَهَا، قَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ جَوْنَهَا؟ (5)" قَالُوا: مَا أَحْسَنَهُ وَأَشَدَّ سَوَادَهُ قَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ رَحَاهَا اسْتَدَارَتْ؟ (4)" قَالُوا: نَعَمْ مَا أَحْسَنَهَا وَأَشَدَّ اسْتِدَارَتَهَا قَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ بَرْقَهَا أخَفْوًا أَوْ وَمِيضًا أَمْ يَشُقُّ شَقًّا؟ " قَالُوا: بَلْ يُشَقُّ شَقًّا قَالَ: " الْحَيَا (6)" فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَفْصَحَكَ مَا رَأَيْنَا الَّذِي هُوَ أَعْرَبَ مِنْكَ، قَالَ: " حُقَّ لِي وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيَّ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " [رواه البيهقي في الشعب]

ولسعةِ العلمِ بلهجات العرب دخلٌ كبير في إحراز المرتبةِ العُليا في الفصاحة، وقد أطلعَ اللهُ الرسولَ الأكمل صلى الله عليه وآله وسلم على لهجات العرب، فكانت موضوعة أمامه يتناول منها ما يشاء، ومن الوارد في كتب الحديث والسيرة بروايات ثابتة متعدِّدة: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخاطب الوفود، ويراسل القبائل بلهجاتهم، حتى كان بعض الصحابة يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله (7). وقد جمع الرواة من هذا الباب شواهد كثيرة.

ومن ينظر فيما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من الخطب والرسائل والمحاورات والفتاوى، وما يلقيه في أثنائها من الحكم، وما يورده فيها من الأمثال والاستعارات، يرى في ذلك من وجوه البلاغة وحسن البيان ما لم يره، ولن يراه قد تأتّى لأحد البلغاء من غيره.

ووصف الجاحظ فصاحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبلاغته في فصل ممتع، ثم قال: (ولعل بعض من يتسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلام، يظن أنا تكلفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره... كلا، والذي حرم التزيُّد على العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء! لا يظن هذا إلا من ضلَّ سعيه، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم).

والحق أنَّ فصاحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروعة بيانه لا يدركها إلا من تردَّد بنظره على الحديث الشريف، ودخل في كل باب من أبوابه؛ إذ يرى الكلام الذي يصدر عفواً دون أن يكون للتصنُّع فيه أثر، ويمر فيما يقرأ على جمل تهتز لروعتها القلوب، ومن لم يسعده الحال أن يطالع كتب الحديث، فلينظر في كتب غريب الحديث، فإنه يطلع في أقرب وقت على جانب عظيم من الألفاظ النبوية البالغة مُنتهى الفصاحة وحكمة الأسلوب.

وفي الناس من تسمو حكمته في بعض نواحي الحياة، وتقتصر في بعض، أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيلقي الحكمة في النواحي المختلفة من شؤون الحياة الفردية أو الاجتماعية، فترد في أعلى طبقة من سمو اللفظ وحسن التصوير، فهو الذي يتكلَّم في الحقوق مثلاً، فيقول: (ولا يجني على المرء إلا يده) [لم أجده في كتب الحديث بهذا اللفظ، والذي ورد: (ولا يجني امرؤ إلا على نفسه) رواه أحمد وغيره]. 

ويتكلم في سياسة الحرب، فيقول: (الحرب خدعة) [البخاري ومسلم]. 

ويحذّر من الخروج عن جماعة المسلمين فيقول: (من خالف الجماعة، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه) [أحمد والترمذي وأبو داود]. 

ومن الظلم فيقول: (الظلم ظلمات يوم القيامة) [البخاري ومسلم]. 

ويشير إلى أن شأن المؤمن أن يكون نبيهاً حازماً، فيقول: (لا يلدغ المؤمن من جُحر مرتين) [البخاري ومسلم].

لبلاغته صلى الله عليه وآله وسلم مظاهر شتى، ومن أوضح مظاهرها: الأمثال التي يضربها لإخراج المعاني في صورة المحسوسات، أو إخراج المحسوسات الخفيَّة في صورة المحسوسات الجليَّة.

انظروا إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في موقع بعثته من بعثات الأنبياء قبله: (إنما مثَلي ومثل الأنبياء قبلي مثل رجل بني داراً، فأكملها وأحسنها إلا موضعَ لبنة، فجعل الناس يدخلونها، ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع تلك اللبنة، فكنت أنا موضع تلك اللبنة) [الترمذي وابن حبان]. 

وإلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في محو الصلوات للآثام: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم، يغتسل منه خمسَ مرات، هل يبقى من دَرَنِه شيء؟) [البخاري ومسلم]. 

وإلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما ينبغي أن يكون عليه المسلمون من الإخاء والتراحم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [مسلم].

وهكذا نرى في تشابيهه واستعاراته سهولة مأخذ، وبعداً عن التصنع، وإبداعاً في إعطاء المعنى صورة تجعله أوضح ما تكون، أو تزيد النفوس ترغيباً فيه، أو تنفيراً منه، فانظروا إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم يصف الشريعة الغراء: (قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) [أحمد وابن ماجه]. 

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم يدل على شدة عزمه وثباته على الدعوة: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر، ما تركته).

وفي الناس من إذا خطب في الجمهور، رأيته في درجة عالية من حسن البيان، فإن عرض له حديث مع بعض الأفراد، أو حديث في معان قريبة التناول، رأيته قد انحط إلى درجة دون الدرجة الأولى، أما حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الأفراد، أو في المعاني السهلة الفهم، فإنه لا ينزل عن مرتبة بلاغته العليا.

يقول صلى الله عليه وآله وسلم في بعض خطبه: (من كان همه الآخرة، جمع الله شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كان همه الدنيا، فرق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) [ابن ماجه].

وهذا طرز فصاحته في المعاني التي تجري على الألسنة كثيراً؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الاستعداد للسفر: (إني على جناح سفر) [مذكور في كتب السيرة ولم أجده في كتب السنة].

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في معنى الموت على الفراش: (من مات حتف أنفه (8) في سبيل الله، فهو شهيد) [البيهقي في الشعب]، وهذه الكلمة من الكلمات التي لم تعرف في حديث قبل حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (9)، وقد عقد ابن دريد في كتاب (المجتبى) باباً للألفاظ التي سمعت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تسمع من أحد قبله.

وبالنظر في أحاديثه عليه الصلاة والسلام تجده ينحو في كلامه وخطبه ومراسلاته نحو الإيجاز، فهو الغالب في أقواله، وربما خطب فأطنب.

قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد العصر خطبة قال فيها: (ألا إن الدنيا خضرة حلوة، ألا وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون) [النسائي في الكبرى] قال: ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف (10).

ومن مُتمات الفصاحة: أن لا يعجل الرجل بالكلام، بل يُلقي الكلمات مُفصَّلة حتى تقع في الذهن كأنها عِقْدٌ جَيِّدٌ تَنْسيقه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يلقي الكلام مُفصَّلاً، قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسرد سردكم هذا، ولكن كان إذا تكلم بكلام، بيَّنه، فيحفظه من يجلس إليه.

وقالت أم معبد تصف حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حلو المنطق؛ كأن منطقه خَرَزاتٌ نُظِمن.

سَمَتْ بلاغةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الذروة، ولكنها لم تبلغ حدَّ الإعجازِ الذي هو خاصٌّ بالقرآن المجيد، والفرق بين بلاغة الحديث وبلاغة القرآن لا يخفى على ذوي الفطر السليمة، لا سيما الذين دربوا فنون البلاغة، وقلَّبوا أنظارهم في أساليبها المختلفة، وعرفوا كيف يضعون كل كلام بليغ في مرتبته.

وهذا التفاوت الواضح بين القرآن والحديث من أصدق الشواهد على أنَّ القرآن الكريم كتابٌ نزلَ من السماء، لا أنَّه من صنعِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كما يزعمُ من يجحدون بآيات الله.

وقد أجاز كثير من المحدثين رواية الحديث النبوي بالمعنى، ولو التزم جميع الرواة نقل الأحاديث باللفظ كما نطق بها صلى الله عليه وآله وسلم، لعرفنا من فصاحته، وبراعة بيانه أكثر مما عرفنا.

وهذه الخصلة من خصال كماله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الفصاحة، وحسن البيان، تدخل فيما يطلب الاقتداء به فيها؛ فإنَّ دراسة علوم البلاغة، ومطالعة منشآت البلغاء، والتمرين على الخطابة والتحري، كل ذلك مما ينهض بالناشئين إلى أن يكونوا فصحاء بلغاء، حتى إذا تصدَّوا لبيان حقٍّ، أو دعوةٍ إلى خير، استطاعوا أن يسترعوا الأسماع، ويأخذوا بالقلوب.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد الحادي عشر الصادر في ربيع الثاني سنة 1358 - مايو 1939. محاضرة الإمام في احتفال جمعية الهداية الإسلامية بذكرى المولد النبوي الشريف.

الحواشي:

(1) الدجن: الغيم

(2) بواسقها: ما استطال من فروعها.

(3) ما اعترض من السحاب وسفل.

(4) رحاها: وسطها.

(5) الجون: الأسود.

(6) الحيا: المطر.

(7) "الشفاء" للقاضي عياض.

(8) أي: مات على فراشه من غير قتل ولا غرق ولا حرق.

(9) البيت المعروف:

وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طُلَّ منا حيث كان قتيل 

وقد روي: "وما مات منا سيد حتف أنفه".

وإنما تصح هذه الرواية إذا قلنا: إن القصيدة لعبد الملك بن عبد الرحمن الحارثي، وهو شاعر إسلامي، لا للسموأل الذي هو شاعر جاهلي.

(10) السعف: جمع سَعَفة - بفتحتين -، وهو غصون النخل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين