أسباب هلاك الأمم كما بَيَّنَتْهَا السُّنَّة النَّبَوية (2)

السبب الرابع: اتباع متشابه القرآن، وما استأثر الله بعلمه.

ليس بين آيات الكتاب تناقض ولا اضطراب؛ لأن الأمر كله من عند الله، لكن القرآن الكريم فيه المحكم والمتشابه، والمحكم هو البيّن الواضح الذي لا يلتبس أمره، وهذا هو الغالب في القرآن، فهو أمّ الكتاب وأصله، وأما المتشابه، فهو الذي يشتبه أمره على بعض الناس دون بعض، فيعلمه العلماء ولا يعلمه الجهال، ومنه ما لا يعلمه إلا الله تعالى.

فمن التبس عليه أمر شيء من المتشابه، فليرده إلى المحكم، إن كان من أهل العلم القادرين على الاستدلال والاستنباط، وإلا فليسأل أهل العلم.

ولا شك أن اتباع متشابه القرآن وترك المحكمات. سبب في الاختلاف والتنازع في الدين المؤدي إلى الهلاك.

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: قال: هَجَّرْتُ (أي: بكَّرْتُ) إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فَسَمِعَ أصواتَ رجلين اختَلَفا في آيةٍ فَخَرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ في وجهه الغَضَبُ، فقال: إنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قبلكم باختلافهم في الكتاب. ".(1)

قال الإمام النووي (ت: 676هـ): المراد بهلاك من قبلنا هنا هلاكهم في الدين بكفرهم وابتداعهم، فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل فعلهم، والأمر بالقيام عند الاختلاف في القرآن محمول عند العلماء على اختلاف لا يجوز، أو اختلاف يوقع فيما لا يجوز، كاختلاف في نفس القرآن، أو في معنى منه لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة وخصومة أو شجار، ونحو ذلك. وأما الاختلاف في استنباط فروع الدين منه، ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة واظهار الحق، واختلافهم في ذلك، فليس منهيا عنه، بل هو مأمور به وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الآن (2).

قال المناوي (ت: 1031هـ): والحاصل أن من الناس من فَرَّطَ في السؤال فسَدَّ باب المسائل حتى قل فهمه وعلمه، ومنهم من أفرط في السؤال فتوسع حتى أكثر الخصومة والجدل بقصد المغالبة وصرف وجوه الناس إليه، حتى تفرقت القلوب وانشحنت بالبغضاء، ومنهم من اقتصد فبحث عن معاني الكتاب والسنة والحلال والحرام والرقائق ونحوها مما فيه صفاء القلوب والإخلاص لعلام الغيوب، وهذا القسم محبوب مطلوب، والأولان مذمومان. وبذلك عُرِف أن ما فعله العلماء من التأصيل والتفريع والتمهيد والتقرير في التأليفات مطلوب مندوب بل ربما كان واجبا شَكَرَ الله سعيهم (3).

السبب الخامس: الغلو في الدين والتنطع والتشدُّد.

الغلو: هو مجاوزة الحد، وهو مذموم في كل الأمور. وهو أحد الأسباب في هلاك من كان قبلنا من الأمم، والسعيد من اتعظ بغيره، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةَ العَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: "هَاتِ القُطْ لِي. فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الخَذْفِ. فَلمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدهِ قَالَ: بِأَمْثَالِ هَؤُلاَءِ. إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمُ بِالغُلُوُّ فِي الدِّينِ (4)

والنهي هنا وإن كان خاصاً، فهو نهي عام لكل غلو، قال ابن تيمية (ت: 728هـ): هذا عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقاد والأعمال. والغلو مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك. والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171].

وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخل فيه، فالغلو فيه: مثل الرمي بالحجارة الكبار، ونحو ذلك. بناء على أنه قد أبلغ من الحصى الصغار. ثم علل ذلك: بأن ما أهلك من قبلنا إلا الغلو في الدين (5).

السبب السادس: التنافس في الدنيا، والمغالبة عليها، وحب التفاخر والتكاثر. 

المنافسة: هي المغالبة على تحصيل الشيء والانفراد به. وقد حثنا الشرع على المُبادَرة إلى الخيرات، والتسابُق في الطاعات، والتنافُس في أعمال البرِّ؛ وهذا هو التنافُسُ المحمود الذي يُثرِي الحياة، ويعين المُسلمَ على السمُوِّ بنفسِه والارتِقاء بعلمِه وعملِه للسعيِ إلى الكمال.

وفي المُقابِل، نهَى الإسلام عن التنافُس المذموم على الدنيا الذي يُلهي عن الله والدار الآخرة، ويحمِلُ على القبائِح والمُنكَرات ومنع الحقوق، ويجرد الإنسان من إيمانه وأخلاقه، ويُفضِي إلى البغي والعُدوان والاستِطالة على الآخرين، ويُحوِّلُ الأمةَ إلى مُجتمعٍ مُتهالِكٍ مُتهافِت. 

وقد أقسم رسول الله لأصحابه وهم أئمة الشاكرين أنه لا يخاف عليهم الفقر، وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها، وإهلاكها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: والله! ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبْسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم (6).

وقوله - صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «إذا فُتِحَتْ عليكم خَزَائِنُ فارسَ والروم: أَيُّ قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله عزَّ وجلَّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: أو غير ذلك، تتنافَسُونَ، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، أو تتَباغضون...» (7).

والعجيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخشى على أمته الشرك، لكن خشي شيئا آخر، وهو أن تفتح الدنيا على الأمة فيتنافسوها ويتقاتلوا عليها، فتهلكهم كما أهلكت من قبلهم، فقال لأصحابه: إني لَستُ أخشى عليكم أن تُشرِكوا، ولكنْ أخشى عليكم الدنيا أن تَنَافَسُوها (8). والعجيب أن هذا التحذير كان في آخر خطبة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يصعد المنبر بعدها!

السبب السابع: كثرة الفساد وانتشار المعاصي والمجاهرة بها:

أخبرنا القران الكريم عن آثار المعاصي على مرتكبيها في أنفسهم وأبدانهم، فقال تعالى: " قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ"، وقال تعالى:" فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ"، وقال تعالى: "وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ"، قال القرطبي في تفسيره: الْكَفُور هو مَنْ كَفَرَ بِالنِّعَمِ وَعَمِلَ بِالْكَبَائِرِ.

وقد بين النبي- صلى الله عليه وسلم- أن المعصية إذا أُعْلِنت دبَّ بلاؤها إلى العامَّة والخاصَّة، ولم يقتصر وبالها على مُرتكبها، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم الله بعذاب من عنده (9).

وسُئِل- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ (10).

ومعنى الحديث أنه إذا كثر الخبث وزاد الفجور والفسوق والفساد كانت الفتنة أقرب للوقوع، وتعرض الجميع للهلاك وإن كان هناك صالحون.

قال الحافظ ابن حجر:

لا يَلْزَمُ مِنَ الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب أو العقاب، بل يُجَازَى كُلُّ أَحَدٍ بِعَمَلِهِ على حَسَبِ نِيَّته... ويُسْتَفَادُ مِنْ هذا مشروعية الهَرَبِ مِنَ الْكُفَّارِ ومِنَ الظَّلَمَةِ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ مَعَهُمْ مِنْ إِلْقَاءِ النَّفْسِ إلى التهلكة، هذا إِذَا لَمْ يُعِنْهُمْ ولَمْ يَرْضَ بأفعالهم، فَإِنْ أَعَانَ أَوْ رَضِيَ فَهُوَ مِنْهُمْ (11).

ويدخل في ذلك تقديم التافهين وتلميعهم وإِكرامهم، وفي المقابل محاربة الصالحين المصلحين والتضييق عليهم، وقد قال عُمَر بْن الْخَطَّابِ: تُوشِكُ الْقُرَى أَنْ تُخَرِّبَ وَهِيَ عَامِرَةٌ، قِيلَ وَكَيْفَ تُخَرَّبُ وَهِيَ عَامِرَةٌ؟ قَالَ: إِذَا عَلَا فُجَّارُهَا أَبْرَارَهَا، وَسَادَ الْقَبِيلَةَ مُنَافِقُوهَا (12).

فالسكوت عن المعاصي من مُوجبات العقاب والهلاك، لأن السكوت عنها يغري أصحابها على التمادي فيها واستفحال أمرها وانتشارها.

وفي حديث السفينة المشهورة: "... فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا جَميعاً، وإنْ أخذُوا على أيدِيهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعاً "(13).

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشَكَ أن يَعُمَّهُم الله بعقاب من عنده (14).

قال العلامة المُناوي (المتوفى: 1031هـ): "أفاد الخبر أن من الذنوب ما يعجل الله عقوبته في الدنيا ومنه ما يمهله إلى الآخرة والسكوت على المنكر يتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات ... وفيه تحذير عظيم لمن سكت عن النهي فكيف بمن داهن فكيف بمن رضى فكيف بمن أعان؟ نسأل الله السلامة (15).

وكذلك هو من موجبات عدم استجابة الدعاء؛ حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر، أو لَيُوشِكَنَّ الله يبعثُ عليكم عقابًا منه، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يسْتَجَيبُ لكمْ» (16).

قال المُناوي (المتوفى: 1031هـ): أي والله إنَّ أحد الأمرين كائن، إما ليكن منكم الأمر بالمعروف ونهيكم عن المنكر أو إنزال عذاب عظيم من عند الله ثم بعد ذلك الخيبة في الدعاء. وصلاح النظام وجريان شرائع الأنبياء إنما يستمر عند استحكام هذه القاعدة في الإسلام، فيجب الأمر والنهي حتى على من تَلَبَّس بمثله ... وفيه تهديد بليغ لتارك الإنكار، وأنَّ عذابه لا يدفع، ودعاءه لا يسمع، وفي أدنى من ذلك ما يزجر اللبيب (17).

اللهم ادفَع عنَّا المِحَن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ردنا الى دينك رداً جميلاً، اللهم تب علينا لنتوب. وصلى اللهم على النبي الأُميّ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحلقة السابقة هـــــنا

(1) رواه مسلم (2666).

(2) شرح النووي على مسلم (16/ 218).

(3) فيض القدير (3/ 562).

(4) رواه أحمد (3248)، وابن ماجه (3029) والنسائي (3057).

(5) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 328).

(6) أخرجه البخاري (3158)، (4015) ؛ ومسلم (2961).

(7) رواه مسلم رقم (2962) 

(8) رواه البخاري رقم (3816) ومسلم رقم (2296).

(9) مسند احمد (26596).

(10) البخاري (3346) مسلم (2880).

(11) فتح الباري لابن حجر (13/ 61).

(12) ذكره ابن القيم في كتابه: الداء والدواء (ص: 49).

(13) صحيح البخاري (2493)، (2686).

(14) أخرجه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وابن ماجة (4005).

(15) فيض القدير (2/ 399).

(16) رواه احمد في مسنده (26596).

(17) فيض القدير (5/ 261(.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين