حدث في الأول من صفر وصول حملة صليبية إلى قريب القاهرة

في الأول من صفر من عام 564 وصلت حملة صليبية يتزعمها الملك أمالريك الأول Amalric I، وتسميه المراجع العربية مُرِّي أو عموري، ملك مملكة القدس اللاتينية، إلى مسيرة يوم من القاهرة، حوالي 70 كيلاً، واحتلت بلبيس ونهبتها وقتلت أهلها وأسرتهم، وانطلقت منها إلى القاهرة وحاصرتها، ولم تنسحب إلا بعد أن اتفق معهم الوزير شاور على بذل ألف ألف دينار يحملها إليهم، عجّل منها مئة ألف دينار، والباقي بعد رحيلهم عن القاهرة.

وأدت الأحداث التي أعقبت هذه الحملة إلى سقوط الدولة الفاطمية وتوحيد مصر وبلاد الشام تحت قيادة نور الدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي، وفيما يلي استعراض لما سبقها من أحداث مجموع من كتب التاريخ الإسلامي.

كانت الدولة الفاطمية قد تأسست قبل حوالي 200 سنة على يد المعز لدين الله في سنة 358، وبدأت في الضعف منذ أيام المستعلي بالله الذي تولى سنة 487، حين أصبح الخليفة صورة ورمزاً، والأمر والنهي بيد الوزير، وأدى هذا الوضع إلى نشوب نزاعات ومكائد بين الخلفاء والوزراء، الخليفة يقتل الوزراء أو يستبدلهم كلما أمكنه ذلك، والوزراء يسعون لتولية الخلفاء من صغار الأمراء الفاطميين ضماناً للسيطرة عليهم، فنجد الوزير عباس بن أبي الفتوح يدبر قتل الخليفة الظافر في سنة 549 ويعين ابنه الفائز بنصر الله وهو في الخامسة من عمره، وأهل الخليفة القتيل يعمدون على الفور إلى الاستعانة بأمير المنية في الصعيد طلائع بن رزيك الذي أنجدهم، وأصبح هو بدوره الحاكم الفعلي، ويهرب الوزير عباس إلى الشام وتستنجد أخت الفائز بالإفرنج ليعترضوه وبذلت لهم المال، فقاموا باعتراضه وقتله.

ولما توفي الفائز بنصر الله سنة 555 وهو في العاشرة، أعلن طلائع بن رزيك أن الخليفة الجديد هو العاضد لدين الله، وكان في الحادية عشرة من عمره، وتزوج العاضد ابنة طلائع فيما بعد، وفي سنة 556 اغتيل طلائع بن رزيك بمواطأة من العاضد، الذي عين محل الأب المقتول ابنه رزيك، وقام رزيك بعزل نائب الصعيد الأمير شاور بن مجير السعدي، فقام هذا بالزحف على القاهرة والاستيلاء على منصب الوزارة بالقوة في سنة 558، وتلقب بأمير الجيوش، وأخذ أموال بني رزيك.

فلما استبد شاور بالإمارة حسده أكبر أمرائه ضرغام بن سوار وجمع جموعاً كثيرة، وانتزع الوزارة من شاور بعد تسعة أشهر من توليه لها، فكان بمصر في سنة واحدة ثلاثة وزراء هم: رزيك بن طلائع بن رزيك، وشاور بن مجير، وضرغام بن سوار، واستقل ضرغام بسلطنة مصر، وأساء السيرة في قتل أمراء الدولة، وضعفت من أجل ذلك دولة الفاطميين بذهاب رجالها الأكابر. 

فسار شاور إلى الشام في سنة 558 هارباً من ضرغام وملتجئاً إلى ملكها نور الدين زنكي ومستجيراً به، وطلب منه أن يرسل معه قوة من عساكره إلى مصر تعينه في العودة إلى منصبه وتردع عدوه، وأن يكون شاور تحت حماية نور الدين وألا يتصرف إلا بأمره، وأن يعطيه ثلث دخل البلاد، فأمر نور الدين بتجهيز الجيوش وجعل عليها أسد الدين شيركوه، وهنا نتوقف للحديث عن هذا القائد العظيم: أسد الدين شيركوه بن شاذي عم صلاح الدين الأيوبي، ومعنى شيركوه بالفارسية: أسد الجبل.

ويعود أصل العائلة الأيوبية إلى بلد دوين Dvin وهي اليوم في أرمينيا جنوبي يروان قرب بلدة Hnaberd، وأصلها من الأكراد الروادية، وهم أشرف الأكراد، وتبع أولادها خطى كثير من الأكراد الذين كانوا يهاجرون إلى العواصم الإسلامية وينخرطون في سلك الجندية، فجاء شيركوه وأخوه الأكبر نجم الدين أيوب والد صلاح الدين إلى العراق، وانخرطا تحت إمرة مجاهد الدين بُهروز قائد حامية بغداد، فرأى من نجم الدين عقلاً ورأياً وافراً وحسن سيرة، وكان أكبر من شيركوه، فجعله مستحفظاً لقلعة تكريت، فسار إليها ومعه أخوه شيركوه، وفي سنة 526 حدث نزاع داخلي انهزم على إثره الأتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر وهو والد نور الدين، وكان أمير الموصل والجزيرة وحلب وحماة، فلجأ إلى تكريت، فخدمه شيركوه، وأقام له السفن فعبر دجلة هناك، وتبعه أصحابه، وما لبث عماد الدين زنكي أن استعاد إمارته وتابع جهاده ضد الإفرنج وعملائهم فأدخل دمشق في طاعته سنة 534 واستعاد الرها من الإفرنج سنة 539 وكان ذلك من أوائل الانتصارات الإسلامية على الصليبيين.

ثم إن أسد الدين شيركوه قتل إنساناً بتكريت لملاحاة جرت بينهما، فأخرجه بهروز من القلعة هو وأيوب والد صلاح الدين، فسارا إلى عماد الدين زنكي، فأحسن إليهما، وعرف لهما خدمتهما، ولما ملك قلعة بعلبك جعل أيوب أميرها؛ فلما قُتِلَ الشهيد سنة 541 حاصر عسكر دمشق بعلبك، فضاق على أيوب الأمر، واضطر إلى تسليمها إليهم، على أن يكون من الأمراء في دمشق فأجيب إلى ذلك، وصار من أكبر الأمراء بدمشق.

واتصل أسد الدين شيركوه بنور الدين محمود بعد استشهاد والده زنكي، وكان يعرفه من أيام والده، فقربه وقدمه، ورأى منه شجاعة يعجز عنها غيره، فأعطاه إمرة حمص، وجعله رئيس عسكره، فلما أراد نور الدين أن يضم دمشق راسل أخاه أيوب وهو بها، ليساعده على فتحها، فأجابه إلى ذلك، وصار أسد الدين شيركوه وأخوه نجم الدين أيوب أعظم أمراء دولته، فلما أراد أن يرسل العساكر إلى مصر، لم ير لهذا الأمر العظيم والمهمة الخطيرة غير شيركوه.

وسار أسد الدين شيركوه وعساكره مع شاور حتى وصلوا مدينة بلبيس، فخرج إليهم أخو ضرغام ولقيهم فانهزم، وخرج ضرغام من القاهرة فقُتِلَ وقتل أخوه أيضاً، وعاد شاور إلى الوزارة، وأقام أسد الدين خارج القاهرة، فغدر به شاور وعاد عما كان قرره لنور الدين، وأرسل إلى الإفرنج يستمدهم فسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته وتجهزوا وساروا، فلما قارب الإفرنج مصر فارقها أسد الدين وقصد مدينة بلبيس، وجعلها ظهراً يتحصن به، فحصره بها عسكر شاور والإفرنج ثلاثة أشهر، وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضاً.

واغتنم نور الدين خلو الشام من القوات الإفرنجية، فهاجم الإفرنج في حارِم في شمال سورية، فرزقه الله تعالى النصر عليهم، ووقع في الأسر بوهمند الثالث أمير أنطاكية، وريموند الثالث كونت طرابلس، وجوسلين الثاني ملك الرها، وأحد أمراء الدولة البيزنطية. 

وإزاء هذه الهزيمة المريرة والتهديد الخطير في الشمال، قام الإفرنج بالدخول في مفاوضات مع شيركوه تم على إثرها الاتفاق أن ينسحب جيش الإفرنج وجيش المسلمين ويخليا مصر، فأجابهم إلى ذلك وقفل عائداً بجيشه إلى الشام.

وعاد شيركوه وقد اتضح له ضعف الحكومة الفاطمية في مصر وعجزها عن صدّ الصليبيين، وصار يتطلع إلى العودة إليها وضمها إلى الدولة الزنكية، وكان نور الدين بنظرته الاستراتيجية قد سبقه إلى استيعاب الخطر الذي يتهدد المشرق العربي والإسلام إذا سقطت مصر في أيدي الصليبين، ولكنه كان يتخوف من التفوق العددي للفاطميين ويخشى من استعانتهم بالصليبيين، ولكنه تحت إلحاح أسد الدين شيركوه جهز بعد سنتين في سنة 562 جيشاً قوياً للتوجه إلى مصر بقيادة شيركوه، وكان الشاب صلاح الدين الأيوبي من أمراء هذا الجيش الذي يقوده عمه.

وبلغ شاورَ خبرُ الجيش القادم، فاستنجد بأمالريك ملك الإفرنج، فسار بجموع الإفرنجة حتى نزل بلبيس وانضم إليه شاور، ولما قدم شيركوه إلى أطراف مصر، تبين له تفوق خصمه، فتجنب مواجهته وانحرف بجيشه إلى الصعيد سالكاً ساحل البحر الأحمر، وبعث شيركوه إلى شاور رسالة: أحلف لك أني لا أقيم ببلاد مصر ولا يؤذيك أحد من أصحابي، وأكون أنا وأنت على الإفرنج، وننتهز فيهم فرصةً قد أمكنت، وما أظن أن يتفق للإسلام مثلها كثيراً. فأبى شاور قبول هذا العرض، واعتبر شاور استيلاء شيركوه على الصعيد وبقاء جيشه بكامل قواته وجاهزيته تهديداً مصيرياً له، وكتب شيركوه إلى أهل الإسكندرية يستنجدهم على الإفرنج وشاور، فقاموا معه وأمدوه بخزانة من السلاح ومجموعة من المتطوعين مع ابن أخت الفقيه ابن عوف، ونظراً للتفوق العددي لخصومه بقي شيركوه يتنقل من مكان لآخر حتى لا يتيح الفرصة لعدوه بمهاجمته.

واتبع شاور والإفرنج ذات الخطة في الحركة السريعة حتى أدركوا صباح ذات يوم شيركوه وجيشه في الأشمونين جنوبي المنية فهزموه، وقتلوا من متطوعة أهل الإسكندرية كثير، ولكن هذا القائد الباسل أعاد مع الظهر تجميع من بقي من قواته، وكانوا ألفي فارس، وطَّنوا أنفسهم على الموت، وأمر شيركوه قلب جيشه بالتقهقر لدى أول هجوم لتنقض الميمنة والميسرة على العدو فتفتك به، ونجحت الخطة، وقتلوا من العدو مقتلةً عظيمة، وأبلى يومئذ صلاح الدين يوسف بلاءً حسنا، واستمر القتال حتى حال بين الفريقين الليل، فانهزم كثير من الإفرنج وقتل منهم كثير، وكاد ملكهم أن يؤخذ، ووقع في قبضة شيركوه وأصحابه نحو السبعين أسيراً، وضعضعت هذه الهزيمة غير المتوقعة معنويات الإفرنج.

وسار شيركوه بقواته على طريق الفيوم إلى الإسكندرية، واستفاد عسكره من غلال ومواشي البحيرة، فخرج إليه أهل الإسكندرية وفيهم: نجم الدين محمد بن مصال والي الثغر، وقاضيه الأشرف بن الخباب، وناظره القاضي الرشيد بن الزبير، وسُرّوا بقدومه وسلَّموه المدينة، ثم سار منها يريد الصعيد، واستخلف ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على الإسكندرية في ألف فارس، فجاء شاور لاستردادها ومعه ملك الإفرنج، فقام أهلها بالدفاع عنها مع صلاح الدين وأخرجوا أربعة وعشرين ألف فرس، وحاول شاور أن يستميلهم فوعدهم أن يضع عنهم المكوس والضرائب، ويعطيهم الخُمْس إذا سلموه صلاح الدين، فأبوا ذلك، وألحوا في قتاله، فحاصرها شاور أشد حصار مدة ثلاثة أشهر، ومنع عنها الميرة، فقلت بها الأقوات. 

ولما بلغ شيركوه ما نزل بالإسكندرية وأهلها من البلاء وقلة الأقوات، وأنها قد قاربت أن تسقط، سار من قوص ونزل على القاهرة محاصراً لها، فاضطر شاور إلى العودة من الإسكندرية إلى القاهرة.

وإزاء عجز كل طرف عن حسم المعركة، أرسل شيركوه إلى صلاح الدين يأمره بالتفاوض مع ملك الإفرنج للعودة بجيشه إلى الشام، فوافق الملك أمالريك على ذلك وتعهد أن شاور سيعوض جيش الشام عن خسائره المادية وتكاليف هذه الحملة، ويعطي الإفرنج ثلاثين ألف دينار، ويعود كل منهم إلى بلاده، وحلف كل طرف بالأيمان المؤكدة على ذلك.

فلما تقرر الصلح أرسل صلاح الدين إلى ملك الإفرنج يقول إن لي أصحاباً منهم القويَ ومنهم الضعيف، فأما القوي فإنه يتبعنا في البر، وأما الضعيف فإنه يسير في البحر فنريد لهم مراكب. فأنفذ إليه عدة مراكب خرج فيها أصحابه.

وتسلم شاور الإسكندرية ودخلها مع ملك الإفرنج بعد أن غادرها صلاح الدين، وجاءه مشايخ البلد، وأمالريك ملك الإفرنج جالس معه، فلم ينظر شاور إلىهم ولا أكرمهم، ولا أذن لهم في الجلوس، لأنهم كانوا قاتلوه قتالاً شديداً، فنقم عليهم ذلك. فقال له أمالريك: أكرم قسسك. فأذن لهم في الجلوس وعاتبهم على ما فعلوا من القتال وإظهار المخالفة. فسكتوا، وكان فيهم الفقيه شمس الإسلام أبو القاسم مخلوف بن علي المالكي، المعروف بابن جاره، فقال له: نحن نقاتل كل من جاء تحت الصليب كائناً من كان! فقال له أمالريك: وحق ديني، لقد صدقك هذا الشيخ. فسكت شاور وأكرمهم بعد ذلك اليوم.

وقبض شاور على جميع من كان مع صلاح الدين من أهل مصر، وعلي ابن مصال، فشقَّ ذلك على صلاح الدين، واجتمع بملك الإفرنج لهذا الغرض، فأرسل إلى شاور وما زال به حتى أفرج عنهم، فخافوا من شاور وعزموا على الرحيل إلى الشام، فخرج إليهم شاور بنفسه وجمع وجوههم وطمأنهم، وحلف لهم أنه يضاعف لهم الإحسان ولا يتعرض لهم بسوء، فمنهم من اطمأن وأقام، ومنهم من رحل إلى الشام.

وعاد الملك أمالريك بعد أن اتفق مع شاور أن يدفع له في كل سنة مئة ألف دينار، وأن يترك قوة من جنوده بالقاهرة، وأن تكون أسوارها بيد فرسان الإفرنج ليمتنع نور الدين من إرسال عسكر إليها، وكان هذا الاتفاق من غير علم الخليفة الفاطمي العاضد ولا مشاورته، فإنه كان ممنوعاً من التصرف وشاور مستبد بأمور الدولة، وبدأ يكثر من سفك الدماء وقتل وجوه الناس، واشتد ظلم إخوته وأولاده وغلمانه ومن يلوذ به، وكثر تضرر الناس بهم.

وتحكم الجنود الإفرنج الذين تمركزوا في القاهرة تحكماً جائراً، وآذوا المسلمين أذى عظيماً، وتيقنوا عجز الدولة عن مقاومتهم، وانكشف لهم أمران: ضعف الدولة العسكري وثروتها الطائلة، وأن البلاد ليس فيها من يردهم، وأرسل قواد القوة الإفرنجية بالقاهرة إلى الملك أمالريك، ولم يكن للإفرنج مذ ظهر مثله شجاعة ومكراً ودهاء، يستدعوه ليملكها، وأعلموه خلوها من المقاومة، وهونوا أمرها عليه، فلم يجبهم إلى ذلك.

فاجتمع إليه أمراء الإفرنج وفرسانهم ونبلاؤهم، وأشاروا عليه باحتلالها وتملكها، فقال لهم: الرأي عندي أننا لا نقصدها، فإنها طُعمة لنا، وأموالها تساق إلينا، نتقوى بها على نور الدين، وإن نحن قصدناها لنتملكها فإن صاحبها وعساكره، وعامة بلاده وفلاحيها، لا يسلمونها إلينا، ويقاتلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا إلى تسليمها إلى نور الدين، ولئن أخذها وصار له فيها قائد مثل أسد الدين شيركوه، فهو هلاك الإفرنج وإجلائهم من أرض الشام! فلم يقبلوا قوله، وقالوا له: لا مانع فيها ولا حامي، وإلى أن يتجهز عسكر نور الدين، ويسير إليها، نكون نحن قد ملكناها، وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة.

فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين شرع أيضاً يجمع عساكره، وأمرهم بالقدوم عليه، واستدعى الملك أمالريك وزيره وأمره بإقطاع بلاد مصر لفرسانه، ففرق قراها عليهم بعد ما كتب جميع قراها ودَخْلَ كل ناحية؛ ولما اكتمل حشد عسكره بما أمده به ملوك الفرنج، سار إلى مصر في أول سنة 564، وكان نور الدين بحلب، فظن أمالريك أن الفرصة سانحة لكونه في حلب بعيداً منه وعساكره متفرقة عنه.

وأرسل شاور رسله للملك أمالريك يسأله عن سبب مسيره إلى مصر، فتعلل بأسباب واهية ثم قال: الصحيح أن قوماً من إفرنج وراء البحر انتهوا إلينا وغلبوا على رأينا وخرجوا طامعين في بلادكم؛ فخفنا من ذلك، فخرجت لتوسط الأمر بينهم وبينكم، وأريد ألفي ألف دينار لأرضيهم بها وأثنيهم عن غزوكم.

وسار أمالريك فنزل على بلبيس، وكاتب جماعة من أعيان المصريين الإفرنج، ووعدوهم النُصرة عداوة منهم لشاور، وحاصر أمالريك بلبيس وكانت حاميتها بقيادة طي بن شاور، حتى أخذها عنوة في أول صفر وقتل جميع من كان فيها وأسرهم وسباهم، ونهب سائر ما تحتوي عليه.

ثم سار أمالريك فنزل على القاهرة في العاشر من صفر وحاصرها، فخاف الناس أن يفعل الفرنج بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه، فلو أن الإفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس لملكوا مصر والقاهرة، ولكن الله تعالى حسَّن لهم ما فعلوا ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وخشي شاور من استيلاء الإفرنج على مدينة مصر القديمة، وكانت غير محصنة، فأمر أهلها بإخلائها والانتقال منها إلى القاهرة، فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم وأولادهم، وقد ماج الناس واضطربوا، كأنما خرجوا من قبورهم إلى المحشر لا يعبأ والد بولده، ولا يلتفت أخ إلى أخيه، ونزلوا بالقاهرة في المساجد، والحمامات والأزقة وعلى الطرقات، فصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم، وقد سُلِبوا سائر أموالهم، وينتظرون هجوم العدو على القاهرة بالسيف، كما فعل بمدينة بلبيس.

وبعث شاور إلى مصر بعشرين ألف قارورة نفط، وعشرة آلاف مشعل نار، فرَّق ذلك فيها، فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء، فصار منظراً مهولاً، فاستمرت النار تأتي على مساكن مصر أربعة وخمسين يوماً، والنّهابة من العبيد ورجال الأسطول وغيرهم بهذه المنازل في طلب الخبايا.

واشتد الإفرنج في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها، وضاق الأمر على شاور، وضعف عن ردهم، فلجأ إلى الحيلة، فأرسل إلى ملك الإفرنج يذكر له مودته ومحبته القديمة له، وأن هواه معه لخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه، ويشير بالصلح، وأخذ مال لئلا يتسلم نور الدين مصر، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يعجل البعض، ويؤجل البعض.

ورأى الإفرنج أن البلاد قد امتنعت عليهم وربما سلمت إلى نور الدين، فأجابوا كارهين، وقالوا: نأخذ المال فنتقوى به، ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين، وصار كما قال الله عز وجل في سورة آل عمران ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، فعجل لهم شاور مئة ألف دينار، وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال، فرحلوا قريباً، وجعل شاور يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وسببه أن أهل مصر كانوا قد احترقت دورهم وما سلم نهب، وهم لا يقدرون على الأقوات فضلاً عن الأقساط.

وكان شجاع بن شاور الملقب بالملك الكامل شاباً صالح الطوية، ناقماً على تواطؤ والده مع الإفرنج، وكان قد راسل نور الدين من قبل مع بعض الأمراء مبدياً محبته وولاءه، ويسأل الدخول في طاعته، وضمن له عن نفسه أنه يفعل هذا ويجمع الكلمة على طاعته، فأجابه نور الدين وشكر له هذا الموقف، وإزاء هذا الخطر الداهم تشاور شجاع مع أمير آخر يدعى شمس الخلافة فقال الأمير لشجاع: عندي رأي لا يمكنني أن أفضي به إليك إلا بعد أن تحلف لي أنك لا تطلع أباك عليه. فلما حلف له قال: إن أباك قد وطن نفسه على المكابرة، وآخر أمره يسلم البلد إلى الإفرنج ولا يكاتب نور الدين؛ وهذا عين الفساد؛ فاصعد أنت إلى العاضد وألزمه أن يكتب إلى نور الدين فليس لهذا الأمر غيره.

فصعد الكامل إلى الخليفة العاضد الفاطمي وكتبا الكتاب عن لسان الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به، ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الإفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي وبناتي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الإفرنج. وبلغ ذلك شاور فلام الخليفة على استدعائه الغُزِّ - وهو الاسم الذي أطلقه العرب على هذا الجنس من الأتراك - فقال الخليفة: أين استدعائي الغز من المسلمين لنصرة الإسلام من استدعائك الإفرنج للإعانة على المسلمين؟! فقال للرسول: قل لمولانا عني أنت مغرور بالغز، والله لئن يثبت لهم رجلٌ بديار مصر لا كانت عاقبته وخيمةً إلا عليك. فلما بلغه ذلك قال العاضد غفر الله له: رضيتُ أن تكون إسلامية وأكون فداء المسلمين.

ولما وصل كتاب العاضد إلى نور الدين وهو بحلب، انزعج لأخباره وجمع الأمراء للمشورة فأشاروا بإرسال أسد الدين شيركوه، وكان بحمص وقد وصلت إليه كذلك رسائل من أهل مصر تدعوه لإنقاذهم مما نزل بهم، فخرج منها يقصد نور الدين بحلب فوصلها في ليلة واحدة، وخرج الرسول من حلب بطلبه، فتلاقيا بباب مدينة حلب، وعادا. فلما رآه نور الدين عجب من سرعة مجيئه، فأعلمه بموافاة الكتب إليه تستدعيه إلى مصر؛ فسُرَّ نور الدين بذلك وتفاءل به، وأمره بالمسير فوراً إلى مصر وقال له: إن تأخرتَ عن مصر سرتُ أنا بنفسي، فإن ملكها الإفرنج لا يبقى معهم بالشام مقام. وأعطاه مئتي ألف دينار وثياباً وسلاحاً ودواب، وأن يختار من يريد من العسكر، فاختار ألفي فارس وجمع فسار في ستة آلاف فارس، وسار معه نور الدين إلى دمشق.

قال صلاح الدين الأيوبي: لما وردت كتب العاضد على نور الدين يستغيث به من الإفرنج، ويطلب إرسال العساكر، أحضرني وأعلمني الحال، وقال: تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسولي إليه ليحضر، وتحثه أنت على الإسراع، فما يحتمل الأمر التأخير. ففعلت وخرجنا من حلب، فما كنا على ميل من حلب حتى لقيناه قادماً في هذا المعنى، فأمره نور الدين بالمسير، فلما قال له نور الدين ذلك التفت عمي إليَّ فقال لي: تجهز يا يوسف! فكأنما ضرب قلبي بسكين! فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية من المشاق ما لا أنساه. فقال لنور الدين: لا بد من مسيره معي فتأمره. فأمرني نور الدين، وأنا أستقيل، وانقضى المجلس، وتجهز أسد الدين، ولم يبق غير المسير؛ قال لي نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك. فشكوت إليه الضائقة، فأعطاني ما تجهزت به، وكان نور الدين مهيباً، مخوفاً، مع لينه ورحمته، فكنت كأنما أساق إلى الموت، فسرت معه وملكها، ثم توفي فأعطاني الله ما لم أكن أطمع في بعضه.

وسار أسد الدين شيركوه مجِّداً فلما قارب مصر رحل الإفرنج عنها عائدين إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضرب البشائر في البلاد، وبث رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحاً جديداً لمصر وحفظاً لسائر بلاد الشام وغيرها.

أما أسد الدين فإنه لما وصل إلى القاهرة دخل إليها واجتمع بالعاضد لدين الله، وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالعاضدية، وفرح به أهل مصر، وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة، ولم يمكن شاور منع ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه وهوى العاضد معهم، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين في تنفيذ اتفاقه القديم مع نور الدين.

ثم إن شاور عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه ويقبض عليهم، ويستخدم من معهم من الجند فيمنع بهم البلاد من الإفرنج، فنهاه ابنه الكامل، وقال له: والله لئن عزمت على هذا لأعرِّفنَّ شيركوه. فقال له أبوه: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعاً. فقال: صدقت ولئن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية، خير من أن نقتل وقد ملكها الإفرنج، فإنه ليس بينك وبين عودة الإفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد نفسه إلى نور الدين لم يرسل معه فارساً واحداً، ويملك الإفرنج البلاد! فترك شاور ما كان عزم عليه.

وخشي عسكرُ الشام شاورَ وقد عانوا من مكره في الماضي، فاتفق صلاح الدين مع بعض القواد على قتل شاور، فاعلموا أسد الدين شيركوه فنهاهم عنه، فسكتوا وبقوا على نيتهم، فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته، فلم يجده في الخيام، وكان قد مضى يزور قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه، فلقيه صلاح الدين في جمع من العسكر، وأعلموه أن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعي، فقال: نمضي إليه. فساروا جميعاً، فسايره صلاح الدين والأمير جورديك وألقياه عن فرسه إلى الأرض، فهرب أصحابه عنه، فأخذ أسيراً، فلم يمكنهم قتله بغير أسد الدين، فتوكلوا بحفظه، وسيروا فأعلموا أسد الدين الحال، فحضر، وسمع الخليفة العاضد بالخبر، فأرسل إلى أسد الدين يطلب منه إنفاذ رأس شاور، وتابع إرسال الرسل يطلب ذلك، فقُتِل وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخر من سنة 564.

ودخل أسد الدين شيركوه القاهرة، فرأى من اجتماع الخلق فخافهم على نفسه، فقال لهم: أمير المؤمنين، يعني العاضد، يأمركم بنهب دار شاور. فتفرق الناس عنه إليها فنهبوها، وقصد هو قصر العاضد، فخلع عليه خلع الوزارة، ولقبه بالملك المنصور أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة، وهي التي كان فيها شاور، فلم ير فيها- وقد نُهِبَت - ما يقعد عليه، واستقر في الأمر، وغلَبَ عليه، ولم يبق له مانع ولا منازع، واستعمل على الأعمال من يثق به من أصحابه.

وأما الكامل بن شاور فإنه لما قُتِلَ أبوه دخل القصر هو وأخوته معتصمين به، ففُقِدوا مع أعمال النهب وكان آخر العهد بهم، فكان شيركوه يتأسف عليه كيف عُدِمَ لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه، وكان يقول: وددت أنه بقي لأحسن إليه جزاء الصنيعة.

ولم يحزن أحد على مقتل شاور، بل شعر المسلمون بالراحة والطمأنينة من ألاعيبه ومكره، وفي ذلك يقول الشاعر حسان بن نمير بن عجل الكلبي، المتوفى سنة 567 عن 71 عاماً، والمعروف بعرقلة:

بغى وطغى حتى لقد قال صحبه ... على مثلها كان اللعين يدور

فلا رحم الرحمن تربة قبره ... ولا زال فيها منكر ونكير

وهنأت الشعراء أسد الدين شيركوه بهذا النصر المبين، وأرسل له العماد الأصفهاني من دمشق قصيدة طويلة يشير فيها إلى بسالة شيركوه ومضاء عزيمته، وإلى شاور وخبثه وتعاونه مع الإفرنج حتى أطمعهم في البلاد:

بالـجِدِ أدركتَ ما أدركت لا اللعبِ ... كم راحة جُنيت من دوحة التعبِ

يا شيركوه بن شاذي الملك دعوة من ... نادى، فعرَّف خير ابن بخير أب

جرى الملوك وما حازوا بركضهم ... من المدى في العلا ما حزت بالخَبَبِ

تَمَلَّ من مُلك مصر رتبة قصرت ... عنها الملوك فطالت سائر الرتب

فتحتَ مصر، وأرجو أن تصير بها ... ميسراً فتح بيت القدس عن كثب

قد أمكنت أسدَ الدين الفريسةُ من ... فتح البلاد، فبادِرْ نحوها، وثِب

أنت الذي هو فرد من بسالته ... والدين من عرفه في جحفل لجب

لقد رفعنا إلى الرحمن أيدينا ... في شكرنا ما به الإسلام منك حُبي

شكا إليك بنو الإسلام يُتْمَهمُ ... فقمت فيهم مقام الوالد الحَدِب

في كل دار من الإفرنج نادبة ... بما دهاهم، فقد باتوا على ندب

من شر شاور أنقذت العباد، فكم ... وكم قضيت لحزب الله من أرب

هو الذي أطمع الإفرنج في بلد الإسلام حتى سعوا للقصد والطلب

وإن ذلك عند الله محتسَبٌ ... في الحشر من أفضل الطاعات والقُرَب

أذله الملكُ المنصور منتصراً ... لما دعا الشركُ: هذا قد تعزز بي

وما غضبتَ لدين الله منتقماً ... إلا لنيل رضا الرحمن بالغضب

وأنت من وقعت في الكفر هيبته ... وفي ذويه وقوع النار في الحطب

وحين سرت إلى الكفار فانهزموا ... نُصرت نصر رسول الله بالرعب

يا محيي الأمة الهادي بدعوته ... للرشد كل غَوي منهم و كل غبي

لما سعيت لوجه الله مرتقباً ... ثوابه، نلت عفواً كل مرتَقب

لا تقطعن ذنب الأفعى وترسله ... فالحزم عندي قطع الرأس كالذنب

ولم تطل الحياة بأسد الدين شيركوه فقد مات هذا القائد المجاهد بعدها بشهرين، ولما احتُضِرَ قال: من ها هنا؟ فقال الطواشي بهاء الدين قراقوش: عبدك قراقوش. فقال: بارك الله فيك، الحمد لله الذي بلَّغنا من هذه الديار ما أردنا، ومتنا وأهلها راضون عنا، أوصيكم لا تفارقوا سور القاهرة حتى تطير رؤوسكم، واحذروا من التفريط في الأسطول.

دفن أسد الدين شيركوه بالقاهرة، ثم نُقِلَ إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مدة بوصية منه، رحمه الله تعالى، بعد حياة بذلها للجهاد ومحاربة الإفرنج الغزاة، ووصفه معاصره الإفرنجي الأسقف وليم الصوري- والفضل ما شهدت به الأعداء – فقال: محارب قدير لا يكل، ولا يرضى بالهزيمة، ذو خبرة واسعة في الحرب، أحبه جنوده لسخائه، كان قصير القامة بديناً شديد القوة، يبصر بعين واحدة، صبورا على الشدائد يحتمل الجوع والعطش دون اكتراث. 

وولّى العاضد بعده ابن أخيه صلاح الدين في منصب الوزارة، وجاء ذلك وقد تطلع إليها من هو أكبر منه سناً وأرسخ منه قدماً في الإمارة، مثل عين الدولة بن ياروق، وسيف الدين المشطوب، وشهاب الدين محمود الحارمي خال صلاح الدين، وقطب الدين ينال بن حسان.

وقيل إن الذي حمل العاضد على تعيين صلاح الدين أن مستشاريه قالوا له: ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سناً من يوسف، والرأي أن يولى، فإنه لا يخرج من تحت حكمنا، ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا، فيصير عندنا من الجنود من نمنع بهم البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرجه.

فلما عينه العاضد ولقّبه بالناصر لم يطعه أحد من أولئك الأمراء، وكان الفقيه عيسى الهكاري مع صلاح الدين، فسعى مع الأمير سيف الدين المشطوب حتى أماله إليه، وقال له: إن هذا الأمر لا يصل إليك مع عين الدولة والحارمي وغيرهما. ثم قصد الحارمي وقال: هذا صلاح الدين هو ابن أختك وعزه وملكه لك، وقد استقام له الأمر فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه، ولا يصل الأمر إليك. فمال إليه أيضاً، ثم فعل مثل هذا بالباقين، وكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي وكان أكبر الجماعة، وأكثرهم جمعاً، وقال: لا أخدم يوسف أبداً. وعاد إلى نور الدين بالشام.

وألقى الله في روع صلاح الدين لما تولى الوزارة أنَّ الله يهيئه لمهمة أكبر وهدف أمسى، قال جليسه القاضي بهاء الدين بن شداد: سمعته يقول: لما يسَّر الله فتح ديار مصر، علمتُ أنه أراد فتح الساحل، لأنه أوقع ذلك في نفسي.

واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل الأموال، فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر العاضد، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه أخوته وأهله، فأرسلهم إليه، وشرع عليهم طاعته والقيام بأمره ومساعدته، وكلهم فعل ذلك، وأخذ إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه، وزادهم، فازدادوا له حباً وطاعة.

ومدحت الشعراء نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي بهذا النصر المؤزر وبدأ الرأي العام يتطلع لاقتلاع الصليبيين من بلاد الشام، ونظم الحافظ أبو القاسم ابن عساكر قصيدة خاطب فيها نور الدين قائلاً:

وإن بذلتَ لفتح القدس محتسباً ... للأجر جوزيت أجراً غيرَ محتسبُ

والأجرُ في ذاك عند الله مرتقب ... فيما يثيب عليه خيرُ مرتقب

والذكر بالخير بين الناس تكسبه ... خير من الفضة البيضاء والذهب

ولست تُعذر في ترك الجهاد وقد ... أصبحت تملك من مصر إلى حلب

وصاحب الموصل الفيحاء ممتثل ... لما تريد، فبادر فجأةَ النُوَب

فأحزمُ الناس من قويَّ عزيمته ... حتى ينال بها العالي من الرتب

فالجَدُّ والْجِدُّ مقرونان في قرن ... والحزم في العزم، والإدراك بالطلب

فطهِّر المسجدَ الأقصى وحوزته ... من النجاسات، والإشراك، والصُلُب

عساك تظفر في الدنيا بحسن ثناً ... وفي القيامة تلقى خير منقلب

وقال عرقلة الكلبي يناشد صلاح الدين ويحرضه على الجهاد:

فتى للدين لم يبرح صلاحا ... وللأعداء لم يبرح فسادا

لئن أعطاه نور الدين حصناً ... فإن الله يعطيه البلادا

إلى كم ذا التواني في دمشق ... وقد جاءتكم مصرٌ تهادى

ألا يا معشر الأجناد سيروا ... وراء لوائه تلقوا رشادا

فما كل امرئ صلى مع الناس مأموماً كمن صلى فُرادا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين