عظمتُه صلى الله عليه وآله وسلم وشيءٌ من سيرتِه الباهرة وآياتِه الظاهرة (4)

الكلمة الختامية:

وآخر القول أنَّ من شاهَدَ أحوالَه صلى الله عليه وآله وسلم، وأصغى إلى سماع أخبارِه المشتملة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وعاداتِه وسجاياه، وسياسته لأصناف الخلق، وهدايته إلى ضبطهم، وتألفه أصناف بني الإنسان وقوده إياهم إلى طاعته، مع ما يحكى من عجائب أجوبته في مَضايق الأسئلة، وبدائع تدابيره في مصالح الخلق، ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع الذي يعجز العلماء عن إدراك دقائقها في طول أعمارهم، لم يبقَ له ریب ولا شكَّ في أنَّ ذلك لم يكن مُكتسباً بحيلةٍ تقوم بها القوَّة البشريَّة، بل لا يُتصوَّر ذلك إلا باستمداد من تأیید سماوي وقوَّة إلهيَّة، وأنَّ ذلك كله لا يتصور لكذاب ولا مُلبِّس، بل كانت شمائله وأحواله صلى الله عليه وآله وسلم شواهد قاطعة بصدقه، حتى إنَّ العربي القُحَّ كان يراه فيقول: والله ما هذا بوجهِ كذَّاب؛ فكان يشهد له بالصدق بمجرَّد مُشاهدته، فكيف من عرف أخلاقه ومارس أحواله في جميع مَصادره وموارده، لاسيما وقد علم أنه أمي لم يمارس العلم ولم يطالع الكتب ولم يسافر قط في طلب العلم فمن أين حصل له محاسن الأخلاق والآداب، ومعرفة الله تعالى وملائكته وكتبه وغير ذلك من خواص النبوَّة لولا صريح الوحي؟ ومن أين لقوة البشر الاستقلال بذلك؟ فلو لم يكن له إلا هذه الأمور الظاهرة لكان فيه كفاية. 

فما أعظم غباوة من ينظر في أحواله، ثم في أقواله ثم في أفعاله، ثم في أخلاقه، ثم في مُعجزاته، ثم في استمرار شرعه إلى الآن، ثم في انتشاره في أقطار العالم، ثم يماري بعد ذلك في صدقه وعلو منصبه الذي لم يصل إليه فيلسوف ولا نبي من أول تاريخ العالم إلى الآن. وأمامك تواريخ العظماء والحكماء فاستعرضها واحداً واحداً. وما أعظم توفيق من آمن به وصدَّقه واتبعه في كل ما ورد وصدر!

ولنجعل آخر كلمتنا هذه الحديث الذي روي عن عائشة رضي الله عنها: قال سعد بن هشام: دخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: كان خُلق رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن.

فانظر إلى مثل قوله: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ٢ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ٣ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ٤﴾ إلخ ﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ١٩٩﴾ [الأعراف: 199] ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ٩٠﴾ [النحل: 90] . ﴿وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ﴾ إلخ ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ٤٣﴾ [الشورى: 43] ﴿وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌ٢٢﴾ [النور: 22]. ﴿وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ٣٤﴾ [فصلت: 34]. ﴿وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ١٣٤﴾ [آل عمران: 134]. ﴿لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ﴾ [الحجرات: 11]. ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَ لَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ ﴾ [الحجرات: 12] 

ولنقهر القلمَ على تَرْك الجولان في هذا الميدان عملاً بمقتضى الحال ونظراً إلى ضيق المجال، ولندع القرآن الكريم يثني عليه صلى الله عليه وآله وسلم في مثل قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ٤﴾ [القلم: 4]. ﴿وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ عَظِيمٗا﴾ [النساء: 113]. ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]. ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].

إذا الله أثنى بالذي هو أهله = عليه فما مقدار ما تمدح الورى

أسأل الله أن يجعلنا من عارفي قَدْره، المتمسِّكين بسنَّتِه، المتشرِّفين بعظيم محبَّتِه بمنِّه وكرمِه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة الأزهر المجلد الثامن ربيع الأول 1356 الجزء الثالث 

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين