مزمار الحي لا يطرب

يتوهم بعض الناس أن كل الفُوَقَة والعلماء الغابرين كانوا يحظون بتبجيل أهل عصرهم، وأنَّ تفوقهم كان ذائعًا في حياتهم، وأن كتبهم التي نرجع إليها اليوم قد نالت عناية آنئذ واهتمامًا.

كما يتوهمون أيضا أن أحداث التاريخ الخطيرة كانت خطيرة إبان حدوثها، وأن أهميتها كانت جلية مفهومة لأهل ذلك الزمان.

وهذا وهم وغفلة؛ فكثير من المبدعين والعباقرة على تنوع التخصصات، كان نسيًا منسيًا مغمورًا، إن لم يكن مغيَّبًا أو معذبًا. وبعضهم لم يكن يجد قوته ولا ضروريات حياته إلا بشق الأرماق، بل مات بعضهم جوعًا.

كما يتوهم بعضهم أن علوم العالم وكتبه، واختراع المخترع وفنونه، تجعله أقرب إلى الكمال في معظم علاقاته، ونظراته، وآرائه...

والحق أن بعض أهل العلم، إن خرج مِن تخصصه، كان إفساده وإضراره وخبطه شرًا من العشواء والعقور.

وقارئ طرف من التاريخ لا يستريب في هذه الحقائق.

ومما حملتْ سفينة التاريخ خبر كبيرٍ اختاره الناس لجلالته، ليحاور قائد جيش الغزاة قبل أن يدخل مدينتهم ويستبيحها.

فدخل هذا الجليل المحترم على القائد فرآه كثير التسبيح، إذا توقف عن حوار العالم لا يفتر عن الذكر والتسبيح، فخُدع به، ولُدغ، ثم لدغت مدينته وحرماته، واستبيحت مقدساته وأحرقت...

المهم أن قارئ التواريخ والسِّيَر إن لم يتسلح ببصيرة وحصافة، زل وعاد بحصائل عرجاء شوهاء منكوسة.

وبضد ما سبق فإن في عصرنا الحاضر، ويومنا الماثل، أحداثًا سيُذكر لاحقًا خطرها، وسيتوقف عندها الدارسون والمؤرخون والمهتمون طويلًا.

كما أن في عصرنا أعلامًا ونبلاء سينوه بسيرهم، وسيُذكرون بترحم واستغفار وإجلال.

والعدو أول مَن يدرك آثار الأحداث، وهو أول مَن يعرف الكبار وآثارهم، فتراه ساعيًا بلا كلل في تقزيم ما يكره. يريد أن يمر ما يتصل بذلك مرور عاجل الأخبار، ثم يكون عابرًا بلا عبرة!

وقد أعانه على ذلك قوم آخرون مِن داخل حصوننا ورمتْ أنوفهم، ليخنقوا أحداثًا عظيمة جليلة، وليصغّروا كبارنا وعظماءنا، بأصوات كريهة، ومنازعات عن اليمين والشمائل، ثم إن حانت فرصة انقضوا حانقين ناقمين.

(قل موتوا بغيظكم)، بعد أن تعضوا مخالبكم وتقرضوا شفاهكم.

التاريخ لا يُقرأ ببرود تحت الظلال، ولا بخلفيات ولا انفعالات ولا أوهام، ولا بغفلة ولا تهويم نعاس...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين