علَّمتني اسطنبول

عظيمةٌ أنت يا اسطنبول، بمعالم حضارتك التُّراثيَّة والحداثيَّة.

عظيمةٌ أنت يا اسطنبول، بجمال طبيعتك، وتنوُّع تضاريسك، وتقلُّب مناخك.

عظيمةٌ أنت يا اسطنبول، بصخب اقتصادك، وفورة مشروعاتك، ودوَّاماتك في عالم المال والأعمال.

عظيمةٌ أنت يا اسطنبول، زرتُك سائحًا فانبهرت واستمتعت، ومقيمًا فتعلَّمت وانتفعت. 

علَّمتني اسطنبول

أنَّ البلاد مهما حَسُنت في طبيعتها، وجَمُلت في عمرانها، وتطوَّرت في مرافقها، فإنَّها لا تحسُن وتجمُل حقيقةً إلَّا بأخلاق أهلها وساكنيها.

لعمرُك ما ضاقت بلادٌ بأهلها=ولكنَّ أخلاق الرِّجال تضيق

فإن ضاقت أخلاقهم؛ ضاق معها كلُّ شيء، فتخال المغاني الواسعة، والأراضي الشاسعة، كجُحْرٍ ضبٍّ، خَرِبٍ مُظلِمٍ، كئيب المنظر، رديء المخبر.

وكم يسعد السَّائح في اسطنبول ويهنأ، وكم يدهش الوالج في عالم المال والأعمال ويعجب، مما يسمع ويرى من سوء التَّدبير، وتعمُّد التَّقصير، وتنازع الشُّركاء، وتخاصم الزُّملاء، والتَّنافس البغيض، والتَّحاسد الشَّديد، والغدر المقصود، بإخلاف الوعود، وعدم الوفاء بالعقود.

ولا ينقطع الأمل من ازدياد الخير وامتداده، بهمَّة أهل التقوى والإتقان من رجال الأعمال ممن أقاموا أعمالهم بإحسان، حتَّى يصحِّحوا المسار، ويكونوا لأهل الخطأ والخطيئة كأضوأِ منار.

علَّمتني اسطنبول

أنَّ عمر بن الخطاب قد بلغ منتهى الإعجاز في الإيجاز في بيان معيار التَّزكية والوثوق بالنَّاس إذ قال: أعاملته بالدِّرهم والدِّينار؟

وكم أسفر الدِّرهم وكشف الدِّينار عن مخبوءات النُّفوس، وقبائح النِّيات، ومساوئ الأخلاق، وفساد الأعمال.

علَّمتني اسطنبول

أنَّ معاملةً واحدةً بالدِّرهم والدِّينار خيرٌ من تزكية ألف شيخ، 

وأنَّ التَّاجر وربَّ العمل مهما طالت لحيته، ولانت كلماته، وكثُرت اجتماعاته بالعلماء، وولائمه للمشايخ الفضلاء، وتعددت صِلاته بالصالحين، وتشعَّبت عَلاقاته بالمُصلحين، لا يوثَق به إلَّا بعد اختبار صدقه في الوفاء بالعقود، وأداء الحقوق.

وكم من مطيلٍ لحيتَه ليخادع بها النَّاس، وكم من مصاحبٍ الأخيار ليصطاد بصحبتهم، ثمَّ يفتك بالصَّيد فتك الأشرار الفُجَّار.

وكم من مطيلٍ لحيته اتباعًا لسنَّة نبيِّه عليه الصَّلاة والسَّلام، وكم من مرافقٍ أهل العلم حبًّا بهم، وخدمةً لهم، ثمَّ يتَّخذ سنَّة النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام في المعاملات ظِهريًّا، ويجعل أقوال أهل العلم نسيًا منسيًّا، فيخوض بالأهواء لا يحتاط ولا يستبرئ ولا يتثبَّت، بل لا يفرِّق بين حلالٍ وحرامٍ، يخبط خبط عشواء، مستعلِنًا غير مستترٍ، مصرًّا مستكبِرًا دون حياءٍ من الله أو عباده، ومن فقد الحياء فقد الخير، وتُودِّعَ منه.

والموفَّق من يجمعه الله بمن أمَّر على نفسه الحقَّ، ظاهرًا وباطنًا، قولًا وفعلًا، فيقتدي بهديه، ويرقى بصحبته، وذاك الذي يُثنى عليه ويُشكَر، وإن زلَّ فيُغفَرُ له ويُستَر.

علَّمتني اسطنبول

أنَّ المثل القديم ( أعطِ الخبَّاز خبزَه، ولو أكل نِصْفَه )، هو ركنٌ ركينٌ لنجاحِ الأعمال، وأيُّ عملٍ لا ينهضُ به أهل الاختصاص والخبرة سيكون وبالًا على صاحبه عاجلًا أم آجلًا؛ بخسارة ماليَّة، أو سوء سمعة، أو مظالم للعميل الدَّاخليِّ والخارجيِّ، تكون ظلماتٍ يوم القيامة.

ورحم الله من قال:

قد قيلَ من قبلُ أعطِ الخبزَ خبَّازه=وإن رجعتَ بنصفٍ بتَّ ممتازا

أعطِ الذي يتقنُ الأشياءَ صنعتَه=ولو غدوتَ بعرفِ النَّاس مُنحازا

علَّمتني اسطنبول

أنَّ الخير باقٍ مهما انتشر الشَّر، وأنَّ الحقَّ له أهلُه، وإن كثُر الخَبَث، وأنَّ الحياةَ جميلةٌ بتجارِبها، وأنَّ أنفع التجارِب التي تُبدِي معادن الرِّجال، فتنتفع من الخائن الوضيع الغدَّار؛ أن تُبغِضَ ما هو عليه من الشَّرِّ، فتفرَّ منه، وتظفرَ بالوفيِّ الشَّريف، فتستمسك بغرزه، فهو الأندر من بين كلِّ نوادر الأرض في هذا الزَّمن الأغبر.

علَّمتني اسطنبول

أن أبقى متعلِّمًا ما حييت، وأنَّ الإيجابيَّة أمضى سلاحٍ في معترك الحياة، وأنَّ ابن السَّبيل لا ينبغي له أن يستوطن في ظلال شجر الطَّريق، بل عليه أن يغذَّ السَّير حتى يضع رحاله في منتهى الطَّريق، وأنَّ لكلِّ طريقٍ رفيق، والرَّفيق قبل الطَّريق، فإن عزَّ الصاحب والرَّفيق، فكفى بالله صاحبًا، عليه يتوكَّل المتوكِّلون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين