خلق الإنسان كما جاء في نص القرآن

دأب بعض الكتاب المحدثين، ممن أسميهم (التطوريين المسلمين)، على الخلط بين قضيتين مختلفتين:

الأولى: كيف بدأ الخلق وكيف تنوعت المخلوقات، والثانية: قصة خلق آدم في القرآن الكريم.

القضية الأولى علمية بحتة نبحثها في علوم الأحافير والجينات والتشريح والتاريخ الطبيعي.

والثانية وحي من الله تعالى نأخذه وتؤمن به كما وردنا في كتابه الكريم دون تلاعب بالألفاظ وإخراج للآيات عن سياقها ودلالاتها.

وكان آخر ما وصلني من كتاباتهم، مقالة نشرها أحدهم، بذل فيها جهده ليبين ما سماه (الموقف الشرعي من نظرية التطور)، أكتفي في الرد عليه، ببيان خطئه الواضح في تفسير آية من كتاب الله تعالى، يكفي تفسيره الصحيح لهدم كل ما بناه الكاتب في مقاله المذكور.

إن مشكلة التطوريين المسلمين هي أنهم لم يجدوا أي دليل علمي على التطور.. فجميع أدلة التطوريين غير المسلمين باطلة لا قيمة علمية لها.. ولكن أصحابنا من (التطوريين المسلمين)، يعتقدون بصحة التطور لأسباب لا نستطيع الجزم بها، قد يكون أهمها عقدة الخواجا... ويريدون أن يقنعوا المسلمين بأن قرآنهم يؤيد التطور، بعد أن فشلوا في إقناعهم بالدليل العلمي، فيتلاعبون بتفسير الآيات الكريمة ليسدوا عورة افتقادهم للأدلة العلمية التي يقنعون بها الناس بنظرية التطور.

هناك آية قرآنية واضحة قاطعة تنسف كل ما يقوله التطوريون المسلمون، هي قوله تعالى، (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)

والعجيب أن أحد هؤلاء كتب مقالاً يقول فيه: "لا أدري كيف تفهمون قوله تعالى (ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)؟ الآية حجة للقول بالتطور لا عليه."

ثم يقوم قائل هذا الكلام بما يدل على أحد أمرين: إما أن الرجل ليس لديه من علم باللغة ما يؤهله لفهم اللغة العربية، أو إنه يفهم ولكنه يقوم بما اسميه (تدليس لغوي).

ذلك أنه يضيف: 

"لقد احتوت الآية مشبها ومشبها به ووجه تشبيه، والمشبه عيسى والمشبه به آدم ووجه التشبيه: أن كلا منهما خلق من تراب ثم قال الله له: كن، فكان."

وما قاله هذا الكاتب لا يوجد إلا في أوهامه، ذلك أن كل من يقرأ الآية الكريمة ويعرف اللغة العربية ويعرف السياق الذي جاءت الآية فيه، يدرك فور قراءتها أن المشبه معجزة خلق عيسى من غير أب، والمشبه به هو معجزة خلق آدم من غير أب ولا أم، بل من تراب، ووجه الشبه هو أن ولادة كل منهما هو معجزة خارقة للعادة، والآية الكريمة جاءت في سياق الرد على أهل الكتاب من النصارى الذين يقولون إن عيسى ابن الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وحجتهم في ذلك أنه ولد من غير أب، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لهم، لماذا تعتبرون عيسى ابن الله لأنه من غير أب، وأنتم تعلمون أن الله تعالى خلق آدم من غير أب ولا أم؟ "خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، فوجه الشبه المقصود إذن بين عيسى وآدم أن ولادة كل منهما معجزة خارقة للعادة، آدم ولد من غير أب ولا أم، وعيسى ولد من غير أب، وهذا المعنى الواضح يفهمه كل من يعرف اللغة العربية، وهكذا فسره كل المفسرين في كل العصور، وهذه نماذج من التفاسير:

يقول الطبري في تفسير هذه الآية: "فَلَيْسَ خَلْقِي عِيسَى مِنْ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، بِأَعْجَبَ مِنْ خَلْقِي آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثًى، فَكَانَ لَحْمًا، يَقُولُ: وَأَمْرِي إِذْ أَمَرْتُهُ أَنْ يَكُونَ فَكَانَ، فَكَذَلِكَ خَلْقِي عِيسَى أَمَرْتُهُ أَنْ يَكُونَ فَكَانَ"، وفي تفسير الجلالين: "{إنَّ مَثَل عِيسَى} شَأْنه الْغَرِيب {عِنْد اللَّه كَمَثَلِ آدَم} كَشَأْنِهِ فِي خَلْقه مِنْ غَيْر أَب وَهُوَ مِنْ تَشْبِيه الْغَرِيب بِالْأَغْرَبِ لِيَكُونَ أَقْطَع لِلْخَصْمِ وَأَوْقَع فِي النَّفْس {خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} بَشَرًا {فَيَكُون} أَيْ فَكَانَ وَكَذَلِكَ عِيسَى قَالَ لَهُ كُنْ مِنْ غَيْر أَب فَكَانَ، وجاء في ظلال القرآن: "إن ولادة عيسى عجيبة حقاً بالقياس إلى مألوف البشر. ولكن أية غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر؟ وأهل الكتاب الذين كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى- بسبب مولده- ويصوغون حوله الأوهام والأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب.. أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب. وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني.. دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى"، ولو شئت لجئت بأقوال عشرات المفسرين في تفسير هذه الآية، وكلها لا تخرج عن هذا التفسير والفهم للمشبه والمشبه به ووجه الشبه. فلا يوجد أحد يعرف العربية يمكن أن يقول: إن وجه الشبه في الآية الكريمة هو أن عيسى وآدم خلقهما الله من تراب، كما يزعم الكاتب المذكور، فهو يقول: (((ووجه التشبيه: ان كلا منهما خلق من تراب ثم قال الله له: كن، فكان.)))

وأنا أسأل كل من يعرف اللغة العربية: هل تحتمل الآية وألفاظها ومعانيها وسياقها أن يكون وجه الشبة هو أن كلاهما خلقه الله من تراب؟؟؟ وهل عيسى خلقه الله تعالى من تراب؟ ألم يقل سبحانه (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا)؟ وعلى أي قاعدة لغوية أو بلاغية أو منطقية أو سياقية أو تفسيرية اعتمد الكاتب ليقول إن الضمير في قوله تعالى (خلقه من تراب) يعود على عيسى؟؟؟ 

إن كل ما كتبه الكاتب ليؤيد زعمه في أن الآية الكريمة لا تتعارض مع التطور سببه جهله (او تجاهله) للمشبه والمشبه به ولوجه الشبه، المشبه هو معجزة خلق عيسى بلا أب، والمشبه به هو معجزة خلق آدم من تراب (بلا أب ولا أم)، ووجه الشبه هو الإعجاز في كلتا الحالتين، وهذه قضية واضحة بينة لا لبس فيها، لم يخالف فيها مفسر واحد، ولا رجل واحد يفهم العربية، قبل أن يأتي بعض المغرضين المشبوهين، ومعهم أفكار منحرفة يريدون تسويقها، منها نظرية التطور، فلما لم يستطيعوا إقناع الناس بها لعدم وجود دليل عليها، ولتصادمها الواضح مع كلام الله الذي لا لبس فيه، وأنه خلق آدم من تراب ثم قال له كن فيكون، راحوا يبحثون في كتاب الله عما يؤيد كلامهم، فلم يجدوا، فكان ملجأهم الأخير التلاعب بتفسير كلام الله، كما فعلوا مع هذه الآية، الكريمة وغيرها، وللأسف فكاتب هذا المقال تأثر بهم وحذا حذوهم، ولو كان له أدنى علم بعلوم اللغة والبلاغة والتفسير لما فعل ذلك، أما إن كان لديه علم وفعل ذلك عن علم، فالمصيبة أكبر.

قد بنى الكاتب المذكور جبلاً من الأوهام على تلاعبه بالمشبه والمشبه به ووجه الشبه، في هذه الآية الكريمة، وعلى هذا فكل ما جاء به باطل لا أصل له. الآية الكريمة قاطعة في دلالتها، يفهمها كل من يعرف العربية، وهكذا فهما العرب والصحابة والتابعون والمفسرون واللغويون والفقهاء والعلماء من لدن عهد النبوة إلى اليوم. وإن كان لدى صاحب المقال مرجع واحد أو تفسير واحد معتمد يقول غير ذلك مع دليل من اللغة وقواعدها وسياقاتها ومعانيها ودلالة ألفاظها، فليتفضل ويطلعنا عليه.

ونختم الكلام بتساؤل في غاية الأهمية: لماذا يحاول البعض جاهدا أن يلوي معاني النصوص ويأتي بتفاسير واهية وروايات ضعيفة ليقول: إن ثبتت خرافة التطور فقرآننا لا يعرضها؟ رغم أن الذي ثبت حقا هو أنها خرافة بكل ما في الكلمة من معنى.

ملاحظة: للمزيد من التفاصيل في الرد على التطوريين المسلمين، يمكن للقراء الكرام تحميل كتابي: "تنوع الكائنات خلق أم تطور أم تطوير" بصيغة pdf هـــنا:

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين